من الأصول المعلومة والقواعد المقررة أن الحجة عند التنازع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: “فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ”.
قال ميمون بن مهران في معنى الآية: “إلى كتاب الله والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قبض إلى سنته” الجامع لابن عبد البر بإسناد صحيح.
قا ل ابن القيم رحمه الله: “ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند التنازع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع”. إعلام الموقعين 1/49.
وعليه فالواجب على المرء عند الاختلاف: النظر في الصحيح الراجح من ذلك فيلزمه ويتمسك به أويتحرى الخروج من الخلاف في حالة الاشتباه.
يقول السبكي رحمه الله: “طريق الرشاد في الأمور التي اختلف العلماء في وجوبها أمران: إما أن يتحرى الخروج من الخلاف إن أمكن، وإما أن ينظر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسك به”. نقلا عن الاختلاف وما إليه 47.
لا إنكار في مسائل الخلاف؟!
ومن ثم فمن الخطأ الجسيم الذي سار عليه كثير من الناس احتجاجهم بمطلق الخلاف على سعة الأمر دون النظر في حقيقة هذا الخلاف ولا معرفة لقوته أوضعفه.. حيث ترتب عليه القول بعدم الإنكار لمسائل الخلاف مطلقا، وهذا سوء فهم لعدم التفريق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الاختلاف.
فإن مسائل الاختلاف هي كل مسألة اختلف فيها العلماء سواء كان فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا أم لا.
أما مسائل الاجتهاد فهي ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا فيسوغ فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها.
مما يبين بيانا واضحا أن مسائل الاجتهاد هي من مسائل الخلاف لا العكس.
فأهل العلم عندما قرروا أنه “لا إنكار في مسائل الخلاف” قصدهم بذلك مسائل الاجتهاد لأنهم كما قرروا ذلك نصوا على أنه “لا اجتهاد مع النص” فتنبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.
أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أولخفاء الأدلة فيها” (بيان الدليل على بطلان التحليل ص 210-211، باختصار).
وقال الشوكاني رحمه الله: “هذه المقالة -أي لا إنكار في مسائل الخلاف- قد صارت أعظم ذريعة إلى سدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنـزلة التي بيّناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، الأمر بما هومعروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته: ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أوفي أحدهما منكراً.
وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك، فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانياً.
وهذه الشريعة الشريفة التي أُمِرْنا بالأمر بمعروفها، والنهي عن منكرها، هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة” (السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار 4/588).
ولا يعني هذا أن لا خلاف يسعنا وإنما الكلام عن مطلق الخلاف لا الخلاف الاجتهادي السائغ مع السعي فيه هو بدوره إلى تضييقه قدر الإمكان.
يقول الشافعي رحمه الله: “الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، ولا أقول ذلك في الآخر.
قال: -أي محاوره-: فما الاختلاف المحرم؟
قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أوالقياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل : إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص” (الرسالة 560).
الاختلاف ليس حجة في الشرع
وبناءا عليه فإن مجرد الاختلاف ليس من حجج الشرع ولا يعتد به كدليل عند العلماء لأنه ليس بتشريع.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله” (جامع بيان العلم 2/89).
وقد قرر هذا الإمام الشاطبي رحمه الله حيث قال: “وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر”.
إلى أن قال: “وهذا عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة”.
ونقل كلاما للخطابي رحمه الله حيث قال: “ليس الاختلاف حجة, وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين” (الموافقات 4/141).
ومن خلال ما سبق يتبين الخطأ الذي جرى عليه عمل بعض المشتغلين بالعلم من إيراد عموم مسائل الخلاف وحكايتها وسرد الأقوال فيها ونسبتها إلى أصحابها، وربما ذكر أدلة كل مذهب دون تحقيق لذلك، ومن غير بيان للراجح من المرجوح والقوي من الضعيف، مع أن نوع ذاك الخلاف يستوجب ذلك.
فهذا العرض لمسائل الخلاف يجعل غير الفقيه في حيرة، وربما ظن اشتباه الشرع وصعوبة درك الحق وطلبه.
فهذا الطريق لا يحصل بها بيان، بل هي إلى التعمية وتوعير الطريق أقرب.
وقال الشاطبي رحمه الله: “وكلام الناس هنا كثير وحاصله معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف” (الموافقات 4/162).
وقال ابن كثير رحمه الله عند كلامه عن آداب المجادلة:” فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تُنبِّه على الصَّحيح منها، وتُبطل الباطل، وتذكر فائِدة الخلاف وثمرته؛ لئلاَّ يطول النزاع والخلاف فيما لا فائِدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم” (مقدمة التفسير).