من مميزات منهج السلف الوسطية نور الدين درواش

قال الله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” البقرة 143.

قال الإمام ابن جرير: “وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به; ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها”.
ولقد تعبدنا الله عز وجل عز وجل في كل ركعة بدعاء: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”.
والصراط لا يكون مستقيما إلا إذا كان وسطا ولهذا أكد سبحانه هذا الوصف بكون الصراط المستقيم غير صراط المغضوب عليهم من اليهود ولا الضالين من النصارى.
ولقد شرع الله للأمة دينا وسطا قائما على الاقتصاد دون تقصير “والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط؛ وله طرفان هما ضدان له تقصير ومجاوزة، فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين قال تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا” ، وقال تعالى: “وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ” وقال تعالى: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا” ، والدين كله بين هذين الطرفين، بل الإسلام قصد بين المِلَل، والسنة قصد بين البدع، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر والغلو مجاوزته وتعديه، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ فإما إلى غلو ومجاوزة، وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بلي بأحدهما بالهلاك، وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق، يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه، غالبا متجاوزا في بعضه والمهدي من هداه الله” .
ولقد امتن الله على هذه الأمة المحمدية بهذه الميزة تبعا لنبيها صلى الله عليه وسلم؛ قال شيخ الإسلام: “خص الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين وجعل له شرعة ومنهاجا أفضل شرعة وأكمل منهاج.
كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات، حتى يقال في فضائل الراهب له أربعون سنة ما مس الماء. ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه.
واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يقعدون معها في بيت واحد والنصارى لا يحرمون وطء الحائض.
وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.
ولذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى، وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل” الجواب الصحيح 1/68-71.
وأهل السنة وأتباع السلف هم أصحاب منهج الحق وصراط الصدق الذين تمسكوا بالإسلام الصحيح فكان لهم من وسطية الإسلام أعظم نصيب فهم في”سائر أبواب السنة …وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان” مجموع الفتاوى 3/375.
هذه وسطية أهل السنة والجماعة إجمالا ونبدأ تفصيلها ابتداء من العدد القادم بحول الله والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *