قال ابن رجب رحمه الله: “من علامات العلم النافع أن صاحبه لا يدعي العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد. وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها. وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها إحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف.
وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها … ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال وتشقق الكلام، ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق، فاحتقر من تقدمه واجترأ عليه بقلة العلم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك…
وقال بعض السلف إن كان الرجل ليجلس إلى القوم فيرون أن به عيا وما به من عي إنه لفقيه مسلم: فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة، لم يكن عياً ولا جهلا ولا قصوراً وإنما كان ورعا وخشية للَّه واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع. وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه، وفي تفسير القرآن والحديث، وفي الزهد والرقائق. والحكم والمواعظ وغير ذلك مما تكلموا فيه، فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال والقيل والقال، فإن اعترف لهم بالفضل، وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريباً وقد قال إياس بن معاوية: ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق، قيل له: فما عيبك؟ قال: كثرة الكلام.
وإن ادعى لنفسه الفضل ولمن سبقه النقص والجهل فقد ضل ضلالا مبيناً وخسر خسراناً عظيما.
وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة اكتفى بمعرفة اللَه إياه، ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس، دخل في قوله صلى الله عليه وسلم (من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار)”.”فضل علم السلف على الخلف”