الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاََ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55].
قال في فتح القدير (3/47): والتضرّع من الضراعة، وهي الذلة والخشوع والاستكانة. والخفية: الإسرار به، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء.
قال الحسن: ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فِعْلَه فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)، [مريم: 3].
وهذا من أعظم آداب الدعاء، فإنه أبلغ في الإخلاص، وأعظم في الأدب والتّعظيم، وأجمع للقلب وأبعد له عن القواطع والمشوّشات، وأعظم للإيمان؛ لأن صاحبه موقن أنّ ربه قريب يسمع الدّعاء الخفيّ، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وكما جاء في الحديث: «ارْبَعُوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
ولا ريب أن الدّعاء نوع من الذّكر وهو متضمّن لسؤال الله، والثّناء عليه بأسمائه وأوصافه، وقد قال تعالى فيه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): الاعتداء في الدّعاء يكون على وجوه كثيرة منها: الجهر الكثير والصّياح الذي ينافي التضرع والخشوع، ومنها أن يسأل العبد لنفسه ما لا يستحقّ كأن يسأل أن تكون له منزلة الأنبياء، أو يدعو بمحال كالخلود في الدنيا أو الاستغناء عن الطعام والشراب وحاجات البشر، أو أن يدعو غير الله؛ فإن ذلك من أعظم العدوان، أو أن يدعو طالبا المعونة على معصية، أو أن يدعو على أهل الإسلام بالشر، كالخزي واللعنة، أو يدعو على نفسه أو ولده أو ماله، ومن ذلك مجاوزة المأمور به؛ ففي سنن أبي داود وغيره أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء». إلى غير ذلك من الوجوه المحرمة.
ومن آداب الدعاء أيضا أن يتوضأ العبد وأن يستقبل القبلة وأن يبدأ بالثناء على الله تعالى وأن يرفع يديه فإن الله كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرا خائبتين، وأن يدعو بقلب حاضر وهو موقن بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ، وأن يعزم المسألة فإن الله لا مستكره له، فلا يقل اللهم إن شئت فأعطني. وأن يكرر الدعاء ثلاثا وأن يلح على الله ولا يستبطأ الإجابة ولا يعجل فيقول: دعوت ودعوت فلم أر يُستجاب لي فيستحسر ويترك الدعاء. وأن يتحين أوقات الإجابة كيوم عرفة، ووقت الإفطار، وساعة يوم الجمعة، ووقت السّحر. وحال الزّحف، وعند نزول الغيث، وبين الأذانين، وحالة السّجود، وفي حال السّفر، وأن يعمد إلى الجوامع من الأدعية فيدعو بها.
وأن لا يتكلّف السّجع في الدّعاء إلا ما خرج على السجية فإنّ التّكلّف لا يناسب حالة التضرّع والافتقار. وأن يرد المظالم إلى أهلها فإن دعوة المظلوم مستجابة لا شكّ فيها. وأن يطيب مطعمه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يمد يديه إلى السماء ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام فقال: فأنى يستجاب لذلك.
فاللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.