يُعَدُّ هذا الحديث مما استدل به القائلون بتحسين البدع وقد تعسفوا في الاستدلال به فزعموا أن قوله عليه الصلاة والسلام: “مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً” دليل على مشروعية تقسيم البدع إلى حسنة وسيئة، وَرَدُّ هذه الشُبهة -عون الله- بعد سَوقِ نص الحديث كاملا.
نص الحديث:
روى الإمام مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ).
تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ” اهـ.
المناقشة:
1- استفاضت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدعة، والذامة لها دون تخصيص أو استثناء، ومن زعم أن قوله عليه الصلاة والسلام: “مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً” المراد به إحداث البدع المسماة حسنة وإيجادها فإنه يلزم من قوله هذا أن نصوص الشرع متعارضة وهذا باطل من عدة وجوه.
2- إن سبب الحديث وقصته في سنة الصدقة وترغيب الناس فيها، والصدقة مشروعة بالاتفاق. فدل ذلك على أن المراد من أحيا، وليس المراد من اخترع . (1)
قال العلامة المالكي أبو إسحاق الشاطبي: “فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً” تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حيث أتى بتلك الصُرَّة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: ”مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً..” الحديث، فدل على أن السنة ها هنا ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة..” .(2)
3- قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً” لا يمكن حمله على الاختراع والإحداث والابتداء عن غير أصل مشروع معتبر؛ لأن كون العمل حسنا أو سيئا أو قبيحا لا يعرف إلا من جهة الشرع .(3)
4- الذي يتتبع آثار السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا يجد نقلا عنهم يفسر السنة الحسنة بالبدعة الحسنة التي يحدثها الناس من تلقاء أنفسهم.
5- إذا صرفنا النظر عن مناسبة الحديث وسبب وروده فإنه يصح أن يراد منه الاختراع في أمور الدنيا، والتفنن فيها اختراعا يلتئم مع أصول الدين ومقاصده، كاختراع الملاجئ والمستشفيات، وتشييد دور العلم والطرق المسهلة لرقي الصناعة والتعليم، ونشر الفضيلة وإماتة الرذيلة، فكل هذه المخترعات سنن حسنة يثاب صاحبها ويُكتب له مثل ثواب من عمل بها إلى يوم القيامة .(4)
6- ورد عند ابن ماجة وصححه الألباني لغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا”.
وهذا يبين بما لا يدع مجالا للشك أن “سَنَّ” في الحديث بمعنى: أحيا.
مَلاكُ القول إذن؛ أنه يظهر جليا مما سبق فساد قول المستدلين بهذا الحديث على تحسين البدع والمحدثات مخالفين كلية النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها: “كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – “أصول في البدع والسنن” لمحمد أحمد العدوي رحمه الله تعالى (ص105).
[2] – الاعتصام بتحقيق الشيخ مشهور (1/305-306).
[3] – حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/399) وانظر الاعتصام (1/308).
[4] – أنظر”أصول في البدع والسنن” ص 106.