«فقه الحال واعتبار المآل: حال المستفتي ومآل الفتوى» إضاءة موجزة معزوز عبد الحق أستاذ باحث في العلوم الشرعية

إن النصوص الشرعية كتابا وسنة عللت الكثير من الأحكام التي جاءت بها، والتعليل بيان لما يترتب على الأفعال المأمور بها من مصالح تعود على الناس ثمرة امتثالهم بها، وعلى المنهيات من مفاسد نتيجة اقترافها، وهذا الأسلوب ينادي بأن الأحكام لم تكن محض أوامر ونواه تعبدية قصد بها مجرد إخضاع المكلفين لها، ولكنها جاءت لتحقيق مصالحهم فتجلب المنافع وتدفع المضار، وفيه إشارة إلى أنها تدور مع المصالح، فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله، ويرشدنا من وراء ذلك إلى أن نسلك عند التطبيق والتنزيل هذا الطريق، فلا نبعد عنه، وأن الحكم متى تغيرت مصلحته أو أصبح لا يحقق مقصود الشارع منه وجب تغييره، وإلا كنا مناقضين لمقصود الشارع، ومن هنا صرح الفقهاء بأن الفعل إذا لم يوصل إلى مقصود الشارع منه كان لاغيا(1).
وفي وقتنا الحاضر تزداد الحاجة إلى ذكر أسرار الأحكام وعللها واعتبار مآلاتها عند التنزيل والتفعيل، وذلك دفعا للشبهات وتعميقا لمعاني الانقياد والطاعة لتلك الأحكام، حيث كثرت سهام التشكيك في الإسلام وادعاء عدم صلاحيته للتطبيق، فالاعتناء ببيان علل الأحكام، ومراعاة تحققها، واعتبار مآلات الفتوى، مما يزيد المؤمن إيمانا واطمئنانا، وهو ملحظ نفسي عبر عنه الإمام الغزالي رحمه الله بقوله: «… في معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة القلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع، والمسارعة إلى التصديق لأن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على وفق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها، وكون المصلحة مطابقة للنص…»(2).
إن مهمة الفقيه المجتهد لا تنحصر في إصدار الحكم، بل يجب أن تتعدى ذلك ليتمحور الفعل مع مآلاته، إذ الأحكام بمقاصدها، ولا يدرك ذلك إلا بمعرفة حال المستفتي وهو الذي سماه الشاطبي رحمه الله بتحقيق المناط الخاص(3): «وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد»(4) ذلك أن المفتي كالطبيب الذي يعالج المرضى، فما يصلح لشخص قد لا يصلح لآخر، وهذا يتطلب أن يكون خبيرا بدروب النفس البشرية فيتعرف على مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، عليما بسنن المجتمعات، وهذا ما حذا بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن يجعل من شروط المفتي معرفته بالناس(5).
ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخيرها -وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال- أجاب بأجوبة مختلفة، فمرة الإيمان ثم الجهاد ثم الحج المبرور، وتارة الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد، وحينا يوصي مستنصحه بالصوم إذ لا عدل له والأمثلة كثيرة(6)؛ وهذا تأصيل شرعي لصحة فقه الحال واختلاف الفتوى من شخص لآخر، مع أن السؤال واحد، فقد يشدد المفتي على بعض الناس إن كان يرى مصلحة في ذلك، ويخفف عن آخرين لاعتبارات نفسية أو اجتماعية قد يلحظها أو يعلم بها، وعلى هذا النهج صار أهل الفتيا منذ عهد الصحابة يراعون حال المستفتي وما يتلبس به من ظروف وأحوال حتى لا يخرج الحكم عن تحقيق مقصده وبلوغ حكمته التي من أجلها شرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية، محمد مصطفى شلبي، ص: 139 وما بعدها، الدار الجامعية، بيروت، 1982م.
(2)- عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، محمد سعيد الباني، ص: 358، دار القادري، دمشق، ط: 1418هـ-1997م.
(3)- الموافقات للشاطبي (4/70)، تحقيق عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 7، 1426هـ-2005م.
(4)- نفس المصدر السابق (4/71).
(5)- إعلام الموقعين لابن القيم (4/152)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ط:1، 1424هـ-2003م.
(6)- انظر للاستزادة الموافقات (4/71 وما بعدها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *