الآثار السلوكية لتوحيد العبادة

ولعل السبب في هذه الفجوة بين التوحيد وبين لوازمه السلوكية والأخلاقية ما نسلكه في تعلمنا أو تعليمنا لهذا الموضوع الجليل من الفصل بين التوحيد وبين لوازمه ومقتضياته؛ بحجة أن هذا علم التوحيد، وتلك اللوازم تتعلق بعلم السلوك والأخلاق، مما يؤدي إلى عرض التوحيد بعيداً عن آثاره العملية ومقتضياته السلوكية. (العــبوديــة مسائل وقواعد ومباحث؛ للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف).
إن هذا العرض الناقص أورث -كما سبق ذكره- جملة من الآثار السلبية المشاهَدة من التهاون في فعل المحرمات وترك الواجبات، وهذا يذكِّرنا بما أورثه مسلك الإرجاء في باب الإيمان من الجرأة على انتهاك المحارم والتعدي على حدود الله تعالى؛ لأن الإيمان عند المرجئة هو التصديق، والعمل خارج مسمى الإيمان، ومن ثم يتعين تقرير التلازم بين الباطن والظاهر، والتوحيد والسلوك، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب) ، فلا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن .
كما أن إهمال تلك الجوانب العملية وإغفالها صيّر هذا التوحيد مجرد جوانب معرفية فقط، مع أن توحيد العبادة هو توحيد الإرادة والطلب، فهو تعلق القلب بالله تعالى، ومحبة الله تعالى وإجلاله وتعظيمه، فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وخضوعاًَ وخوفاًَ ورجاءً.
فكما أن الإيمان ليس تصديقاً فحسب، فكذا التوحيد ليس توحيداً خبرياً علمياً فحسب، فالواجب أن نحقق التوحيد العملي -توحيد العبادة- بلوازمه ومقتضياته.
وبعد هذه التوطئة المهمة أذكر جملة من الآثار السلوكية والتي تعد من لوازم توحيد العبادة ومقتضياته، وللقارئ الكيِّس أن يُعنى بها، فإن كانت متحققة في واقعه فهذا هو المقصود، وإن كانت الأخرى فعليه بالمجاهدة وصدق الإنابة إلى الله تعالى.
فمن الآثار السلوكية لهذا التوحيد: العفاف والطهارة من الفواحش والقاذورات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: (ولهذا لما كان يوسف عليه الصلاة والسلام محباً لله تعالى مخلصاً له الدين لم يُبْتلَ بذلك، بل قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) . وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله تعالى يصرف عن العشق) .
يقول العلامة عبد الرحمن السعدي:
(من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه، من أنواع السوء والفحشاء، وأسباب المعاصي، ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه، لقوله تعالى: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) على قراءة من قرأها بكسر اللام . ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمّن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله، أخلصه الله، وخلصه من السوء والفحشاء) .
يقول ابن القيم في هذا الصدد: (أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش.. ولهذا جمع الله بين الثلاثة في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ) وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض، فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه، قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) فالسوء العشق، والفحشاء الزنا.. ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيداً وأعظم شركاً كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقاً بالصور وعشقاً لها) .
وقد أشار الحسن البصري رحمه الله إلى هذا التلازم، فقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال الفرزدق: شهادة أن لا اله إلا الله منذ ستين سنة، قال الحسن: نعم العدة، لكن لـ(لا اله إلا الله) شروطاً، فإياك وقذف المحصنة .
ولما سئل الجنيد رحمه الله : بم يستعان على غض البصر؟ فقال: (بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إليه) . (العــبوديــة مسائل وقواعد ومباحث؛ للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *