السلفية وسطية أم تطرف..؟ -الحلقة السادسة- حمّاد القباج نماذج الانحرافات: النموذج الثالث: الفتانون (ج 1)

تحيلنا كلمة “فتان” على قصة نبوية فيها عبرة؛ رواها الشيخان عن جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة؛ فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا فقال إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت فزعم أني منافق”.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا معاذ؛ أفتان أنت؟؟ -ثلاثا-؛ اقرأ {والشمس وضحاها}، و{سبح اسم ربك الأعلى}، ونحوها”.
في هذا الحديث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن إطالة الصلاة بالناس قد يؤدي إلى افتتانهم؛ فالصلاة خير موضوع، ومع ذلك إطالتها في الموطن التي تكون تلك الإطالة فتنة؛ ممنوع..
وهكذا؛ فإن معاذا رضي الله عنه ظن أن إمامته لهم بسورة البقرة قربة، لكن التوجيه النبوي بيّن له أنه يؤدي إلى الفتنة..
وهذا حال أو وصف كل أمر يظنه صاحبه تعبدا، ولا يدري أنه فتنة بالعرض وإن كان في أصله دينا وقربة.
ومن أشد ما ابتلي به الدين من هذا الجنس؛ ما تفشى في الحقل الدعوي؛ من غلو أصحاب الجرح الذين فتنوا الناس بتنطعهم وتعالمهم وغلظتهم..
وهم ينتسبون إلى السلفية والاتباع، ويعتقدون أن من خالفهم مبتدع وضال!!
وقد أوقعهم تعالمهم في تناقضات عجيبة جدا؛ حيث تراهم يزجرون الذين يقدمون للحكام النصيحة الشرعية، ثم يطلقون ألسنة الجرح الفظ الغليظ في العلماء، مع أن النصوص أمرت بطاعة ولاة الأمر وهم العلماء والأمراء، وليس فقط الحكام.
وتراهم ينكرون التعصب لقول مالك والشافعي في “الحلال والحرام”، وهم يتعصبون لقول فلان وعلان من المعاصرين في “الجرح والتعديل”!
وتراهم يعظمون السلف ثم يخالفون ما كانوا عليه من ورع عظيم وأخلاق عالية وتحذير من التعالم وحرص على الفقه في الدين.. إلـخ.
وفي الوقت الذي يعظمون فيه العلم الشرعي، تراهم من أجهل الناس بفقه السلف ومنهجهم في الاستدلال والاستنباط، وجمعهم بين ظواهر النصوص ومقتضياتها واعتبار مآلات الأشياء والمصالح والمفاسد، وغير ذلك من قواعد الشريعة التي لا يدركها هؤلاء، ومع ذلك يظنون أنهم أصحاب العلم الشرعي..
ولو وقفوا عند ما أحسنوا من معرفة مسائل المعتقد وبعض مباحث علم الحديث لنفعوا وانتفعوا، لكنهم تعدوا قدرهم وهجموا على ما لا قبل لهم به في إطار جهل مركب وتعالم فاضح وصفاقة وجه وفظاظة خلق..
وقد كان لمواقفهم المتنطعة مفاسد كثيرة؛ حيث فرقوا بين الإخوة، وكرهوا الناس في علمائهم، وشغلوهم بالتصنيف الأعوج عن العلم الشرعي، وبحروب الجرح المنحرف عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونزّلوا أحكام الهجر ومواقف التحذير على علماء أهل السنة ودعاتهم، وانقسموا على أنفسهم، وبدعوا وضللوا بالأوهام الضالة والألفاظ الغليظة…
إن علم الجرح والتعديل علم جليل وضع بالأساس لصيانة الحديث النبوي وتمييز الثقات من نقلته عن غيرهم؛ كما يلعب دورا مهما في حفظ السنة (أي المنهاج النبوي) وكشف الدخيل عليها وما يخالفها من المناهج ومن يخالفها من الأشخاص.
و”الكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وجُوِّز تورعا وصونا للشريعة لا طعنا في الناس.
وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة، والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال”.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: “قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن في أمته ممن يجيء بعده كذابين فحذر منهم ونهى عن قبول رواياتهم وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره؛ فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين احتياطا للدين وحفظا للشريعة من تلبيس الملحدين”اهـ .
وهكذا الرد على المخالف أصل منهجي مهم؛ لا بد منه لصيانة الدين من الدخيل، وسد باب الابتداع بالأهواء، وتشريع ما لم يأذن به الله بمجرد الاستحسان والتزيين؛ ومن هنا أرشد الشارع الحكيم إلى واجب الرد والتحذير بضوابط تصون هذا العمل الجليل من العبث ولعب الأصاغر، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كتاب الله سبحانه تضمنا الرد على المخالفين؛ كاليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والخوارج والقدرية والقرآنيين.. إلـخ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد -أظنه- والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بيّن أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا. فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم. ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين؛ هذا أفضل”اهـ .
وقد حمل هذه الراية الشريفة؛ علماء ومحدثون ونقاد جهابذة، فحفظ الله بهم السنة، وصان بهم الدين، جزاهم الله خيرا.
ثم خلف من بعدهم خلف جنحوا بهذا العلم الشريف، وجعلوا منه وسيلة للتسلط على الناس بتصنيف بدعي انحرف عن المقاصد الجليلة لعلم الجرح والتعديل وأصل الرد على المخالف؛ ففتنوا وشوشوا وأضلوا وخلطوا خلطا عجيبا..
فما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟
ذلك ما سنقف معه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *