الدُرَّة المنتقاة:
عن حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه- قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ: رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ». (متفق عليه).
تأملات في الدُّرة:
حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدرة النبوية عن نزول الأمانة وعن رفعها؛
– فأما نزولها فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في جَذْرِ -أي: أصل- قلوب الرجال، والنساء في ذلك مثلهن لكونهن شقائق الرجال، وقد فُسرت الأمانة بتفاسير منها: التكاليف، ومنها العهد الذي أخذه الله تعالى على عباده، وهما أمران متلازمان فإن الله تعالى قد أخذ على عباده عهدا، يتضمن تكليفا لهم بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته، وهذه هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (الأحزاب72).
– وأما رفع الأمانة فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنها ترفع من القلوب حال النوم، فينام الرجل النومة فترفع الأمانة من قلبه، فيبقى أثرها مثل الوَكْتِ، وهو الأثر اليسير، أي: يبقى منها شيء يسير جدا، ثم ينام نومة أخرى فترفع تماما، ولا يبقى منها شيء إلا أثر يدل على مرورها من القلب، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالمجل، هو أثر العمل في اليد، حين تنفط، أي: حين يتكون الماء بين الجلد واللحم، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالجمر من النار يدحرجه الرجل على رجله فينفط، فتراه منتبرا -أي مرتفعا، منتفخا بالماء- وليس فيه شيء، يعني من الجمر، فالجمر قد تدحرج ولم يبق إلا أثر مروره، وكذلك الأمانة ترفع تماما، ولا يبقى إلا أثر مرورها من القلب، فالله المستعان.
ثم تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أثر هذا الرفع، وهو ذهاب الوفاء بالعهود وحفظ الأمانات من الناس، فلا يكاد أحد يفي لأحد، ولا يكاد أحد يحفظ الأمانة، حتى يقال: -من قلة الأمانة في الناس- إن في بني فلان رجلا أمينا. ومن آثار ضياع الأمانة في الناس، وفشو الخيانة فيهم: أن يبَالَغَ في الثناء على الرجل، وليس في قلبه من الإيمان شيء.
وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1- نزول الأمانة في أصل قلوب الرجال، وهذا يدل على أن حفظ الأمانة ورعايتها أمر مستقر في الفطرة السليمة.
2- نزول الوحي موافقا لما استقر في الفطر السليمة من حفظ الأمانة، ويدل على ذلك أن القرآن قد جاء داعيا ومؤكدا على حفظ الأمانة ورعايتها، كما في قوله تعالى: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا” (النساء58)، وقوله في وصف عباده المؤمنين: “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” (المؤمنون8)، كما جاءت السنة النبوية داعية إلى أداء الأمانة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» (صحيح الجامع:240). ويدل على موافقة الدين المتلقى عن طريق الوحي للفطرة السليمة قوله تعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم30)، وقوله جل وعلا: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ”، أي: مثل هداه في قلب المؤمن، “كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (النور35).
فمعنى قوله: “نور على النور”، أي: نور الوحي على نور الفطرة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: “مَثَلُ هُدَاهُ في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوء على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن، يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورا على نور” (تفسير ابن جرير). وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: “…والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نورا على نور” (اجتماع الجيوش الإسلامية ص:10).
3- نزول الوحي مكملا ومحققا لما استقر في الفطر السليمة من حفظ الأمانة، ويدل على ذلك ما تقدم من أن الأمانة تستلزم الوفاء لله تعالى بعبادته وحده وطاعته، ولا تمكن طاعته إلا بعد العلم بأمره ونهيه، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا الوحي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعد ذكره لنزول الأمانة في أصل القلوب: “ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ”. فنـزول الوحي بالشرائع إذاً جاء مكملا ومحققا لما استقر في الفطر السليمة من ضرورة خضوع الخليقة لخالقها. وهذا يدل على عدم استغناء الناس -وإن سلمت فطرهم- عن الوحي، ولهذا أبى الله تعالى أن يعذب أحدا من الناس حتى يبعث رسولا، فقال عز وجل: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” الإسراء:15.
4- رفع الأمانة من قلوب الرجال حال نومهم شيئا فشيئا حتى لا يبقى منها شيء، إلا ما يدل على سابق استقرارها في القلوب، كما يبقى أثر الجمر بعد دحرجته على الرجل، وكما تقلع الشجرة من جذورها فلا يبقى في الأرض إلا موضع قلعها. وارتفاع الأمانة من أشراط الساعة، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» . قيل: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» البخاري، وقد تضمن هذا الحديث صورة أخرى من صور الخيانة وضياع الأمانة في آخر الزمان، ألا وهي: إسناد الأمور إلى غير أهلها.
5- من آثار رفع الأمانة من القلوب خيانة العهود، والغدر بالمواثيق، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه.
6- من الخيانة وعدم الأمانة أن يثنى على الرجل بما لا يستحقه من الثناء والتزكية، ومن ذلك الثناء على أهل الباطل: من المنافقين، والعلمانيين، وأهل البدع المنحرفين، وذلك لما في الثناء عليهم من قول الباطل، وتغرير من لا يعرف حقيقتهم بهم، وهذا مخالف لما أمرنا به من النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
7- من آثار رفع الأمانة من القلوب، خيانة الله ورسوله، بالإعراض عن العمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك ما تقدم من أن الأمانة المترسخة في القلوب تقتضي العمل بالقرآن والسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم بعد ذكر نزولها في القلوب: “ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ”؛ فدل ذلك بدلالة المفهوم على أن الإعراضَ عن القرآن والسنة علما وعملا، ما هو إلا فرع عن رفع الأمانة من القلوب، ترتب عنه خيانة الله ورسوله بمعصيتهما ومخالفة أمرهما، وقد قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” الأنفال27.