اقتضاء العلم العمل

العلم يطلب ليُعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة رحمه الله: (واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب..) تذكرة السامع والمتكلم.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” الصف.
اتفقت كلمة المفسرين على أن سبب النـزول أن رجالاً رغبوا في الإذن لهم في الجهاد وأحبوا معرفة أفضل الأعمال عند الله تعالى. فقد أخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لودِدْنَا أن الله عز وجل دلَّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال: إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به”.
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ”.
ومع أن الجمهور يرَون أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه، ولكن المعنى أشمل وأعمّ، فإن النصوص القرآنية أبعد مدى من الحوادث المفردة التي نزلت الآيات لمواجهتها، وأشمل الحالات غير الحالة التي نزلت بسببها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب -كما قرره الأصوليون- فيستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد أو العهد أو الأمر أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله تعالى الذي هو أشد البغض.
قال الراغب: المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح. (تفسير الطبري 28/83، 84)
وجاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه مؤكدة إتبَاع العلم بالعمل، وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره، ولنا في رسولنا أسوة حسنة.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يجاء برجل فيطرح في النار، فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان. ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله” (أخرجه البخاري ومسلم).
إنه وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف، منظر رجل يلقى في النار فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله.
إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال ابن علان في دليل الفالحين (1/490): “فشدد عليه الأمر لعصيانه، مع العلم المقتضي للخشية، والمباعدة عن المخالفة”.
قال الحسن: لقد أدركت أقواماً كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟ (حلية الأولياء 2/155).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *