منهج الاستدلال عند أهل السنة والحديث -الحلقة الخامسة- النقل والعقل (تتمة) رشيد مومن الإدريسي

طريقة أهل السنة والحديث عرفت للعقل منزلته ودوره الحقيقي؛ ووضعت لنظره ضوابط محددة تتفق مع قدراته وإمكاناته، فلم تطلق له العنان، بل جعلت له حدوداً ومجالات لا يجوز له تجاوزها وتعديها، ومن ذلك أنه لا مجال للعقل في الأمور الغيبيات -وهذا من فضل الله ورحمته بالإنسان، حيث لم يكلّفه ما لا يستطيع- وجعلت العصمة للوحي المتمثل في الكتاب والسنة، فلا تعارض عندها بين النقل الصحيح والعقل الفطري الصريح، وفي هذا تعظيم للوحي وجعله الحكم، وصيانة للعقل البشري من التمزق والانحراف، وللمجتمع من الفرقة والخلاف، ذلك أن دعوى “المعارضة بين العقل والنقل هي أصل كل فساد في العالم..”1.

ومن صور ذلك ما زعمه زكي نجيب محمود من تعارض الدين مع العقل، بحيث ترتب عن زعمه هذا أن الغيب والإيمان به خرافة باعتباره ذلك خارجا عن المحسوسات، بل ألف في ذلك مؤلفا سماه “خرافة الميتافيزيقا”!!!
بل أنكر فريد وجدي معجزات الأنبياء عموما وادعى أنها غير واقعة بل غير ممكنة الوقوع لمخالفتها للعقل والعلم وسنة الكون فيما يزعم!!2
فتأمل معي أيها البصير إلى هذا الطغيان في تمجيد العقل حتى صيروه صنما يعبد!!
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، ولو كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد لما أرسل الله الرسل”3.
والغرض إيضاح أن الوحي عند أهل السنة والحديث هو الحاكم والعقل تبع له؛ لعدم إمكانية استقلاله بمجرده، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه؛ فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة”4.
فعدم اعتمادنا على العقل في الأمور الغيبية وعدم تقديمه على الوحي لا يعني إلغاء العقل بالكلية، فقد أجمع المسلمون على أنه لا تكليف على صبي و لا مجنون، وأنه لابد من نظر العقل في أمور الدين أخباره وأحكامه كي يحكم بالجواز لا بالاستحالة، ولذلك أمر الله بتدبر كتابه، ولا يمكن أن يتحقق هذا التدبر إلا بالعقل.
قال ابن خلدون رحمه الله تعالى: “العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به التوحيد والآخرة وحقائق النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال”5.
فمحور الخلاف -إذن- بين أهل السنة والمدرسة العقلانية ليس هو في ذات إعمال العقل، ودوره في فهم النصوص الشرعية، وإنما في مسألة: أيهما المقدّم عند الاختلاف، وأيهما المتبوع.
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: (واعلم: أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الإتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا)6.
وعليه فخلاصة الاستدلال بالعقل عند أهل السنة والحديث ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: “ما عُلم بصريح العقل لا يُتَصوّر أن يعارضه الشرع ألبتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات7 العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقلُ انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته)8.
وقال كذلك: “واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما عَلِم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنّة، وليس في ذلك -ولله الحمد- دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء، ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل”9.
فـ”العقل نوعان: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان:
فالعقل الذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض الطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم لما جاء عنه، وترك الالتفات إلى ما خالف أمره، أو وافق نهيه، غير طالب لذلك علة غير ثبوت الأمر والنهي فيسعد باتباع الأمر واجتناب النهي.
والعقل الذي كيد: يطلب بتعمقه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه، وحجب أسرار الخلق في فهمه، حكمة منه بالغة، ليعرفوا عجزهم عن درك غيبه ويسلموا لأمره طائعين، ويقولوا كما قالت الملائكة: )لا علم لنا إلا ما علمتنا(.
فتفرقت بهؤلاء القوم -الذين ادعوا أن العقل يهديهم إلى الصواب- السبل والأهواء، وتلاعب بهم الشيطان، فزين الباطل في قلوبهم، فلم يصلوا إلى برد اليقين، وصدوا عن الصراط المستقيم.
وإذا تأملت تعمقهم في التأويلات المخالفة لظاهر الكتاب والسنة، وعدولهم عنهما إلى زخرف القول والغرور لتقوية باطلهم، وتقريبه إلى القلوب الضعيفة لاح لك الحق، وبان الصدق.
فلا تلتفت إلى ما أسسوه، ولا تبال بما زخرفوه، والزم نص الكتاب، وظاهر الحديث الصحيح -اللذين هما أصول الشرعيات- تقف على الهدي المستقيم”10.
………………………………
1. مختصر الصواعق المرسلة1/293
2. نقلا عن الموقف المعاصر من المنهج السلفي43.
3. درء التعارض 1/140.
4. الفتاوي 1/6.
5. المقدمة 364.
6. الحجة في بيان المحجة 1/320، وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي رحمه الله: “الواجب على جميع أهل العلم والإسلام: أن يلزموا القصد للاتباع، وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول عليه الصلاة والسلام غايات للعقول، ولا تجعلوا العقول غايات للأصول” ذم الكلام للهروي رحمه الله بواسطة صون المنطق والكلام ص:69.
7. ولذا كان “استشكال النص لا يعني بطلانه، ووجود النصوص التي يستشكل ظاهرها لم يقع في الكتاب والسنة عفوا وإنما هو أمر مقصود شرعا ليبلو الله تعالى ما في النفوس ويمتحن ما في الصدور، ..” قاله العلامة المعلمي اليماني رحمه الله في الأنوار الكاشفة ص:218 .
قال الناظم:
ما في محارات العقول تعنت والعقل في كنه الإله سحاله
ليست محارات الحجى كمحاله والشرع لا يبغي لديه محاله
نوادر الإمام ابن حزم رحمه الله 120 لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.
8. درء التعارض1/147.
9. درء التعارض 1/ 194.
10. الحجة في بيان المحجة للأصبهاني رحمه الله 2/295.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *