ابن عباس، الذي رزقه الله الفقه في الدين وعلمه التأويل، يفتي سائلا عن توبة القاتل بأن لا توبة له، ويفتي آخر أن له توبة، وعندما سئل عن سر اختلاف الإجابتين بيَّن للمتعجبين من جوابه أنه شعر من كلام السائل الأول نية القتل، فأراد أن يصرفه عن ذلك بتيئيسه من التوبة، أما الثاني فقد كان قاتلا آيسا من رحمة الله، فأحب أن يجعل له سبيلا إلى التوبة(1).
فالفقه بما هو علم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية، لابد أن يراعي فيه الفقيه أحوال اناس، فيتابع أفعالهم وينشئ لها الأحكام التي تحقق مصالح جميع أفراد المجتمع، والتي لا تخرج عن المقاصد الكلية التي استقرأها علماؤنا رحمهم الله، فيكون دور الفقه هو ضبط السلوك الاجتماعي بما يعود على المجتمع كله بالصلاح، وينفي عنه عوامل الفساد، مع تفعيل ذلك وتحقيقه في آحاد صور المجتمع، أي في أفراده.
فيحتاج المجتهد إلى النظر في كل حالة على حدة، مع عدم الفصل الكلي عن بقية الحوادث والوقائع فصلا يفضي إلى إغفال الوشائج الرابطة بينها، فما احتياج الفقيه إلى النظر في كل حالة على حدة إلا ليتمكن من معرفة ما يناسب وما لا يناسب حسب خصوصياته وأحواله، وذلك لأن «النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرُب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض»(2).
ولخطورة هذا العمل وصعوبته ودقته لا يصح أن يتقلده إلا «الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي من تلقي التكاليف»(3).
وفقه الحال هذا لا ينفك عند الناظر المجتهد في النوازل والباحث عن الحكم الشرعي المناسب عن اعتبار المآل، إذ معرفة حال المستفتي تعين المجتهد على إناطة الأحكام بعللها، وتحقيق مناطاتها الخاصة بعد العامة، فيتجلى واقعا وجه المصلحة من تشريع هذا الحكم أو ذاك، ولذلك نبه علماؤنا إلى ضرورة النظر في مآلات الأفعال قبل الإقدام عليها، أي إلى ما تنتجه من آثار، وما تخلفه من منافع أو مضار، وما ينشأ عن الإتيان بها أو تركها من مصالح أو مفاسد قد تكون مضادة لشرعيتها أساسا، لذلك يأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه سواء كان يقصد ذاك الذي آل إليه الفعل أم لم يقصده، فإذا كان الفعل مؤديا إلى مطلوب فهو مطلوب، وإذا كان يؤدي إلى شر فهو منهي عنه(4).
يتبع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أدب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، ص: 56، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط:2، 1411هـ-1990م.
(2)- الموافقات (4/71).
(3)- نفس المصدر السابق (4/71).
(4)- أصول الفقه، لأبي زهرة، ص: 288.