وقفات مع كتاب التعالم ظواهر التعالم إعداد: عابد عبد المنعم

التعالم في الفتيا

الفتوى جمرة تضطرم, فاسمع ما شئت من فتاوى مضجعة محلولة العقال، مبنية على التجري لا التحري، تعنت الخلق وتشجي الحلق، لا تقوم على قدمي الحق، بل ولا قدمي باطل وحق, فهم في انتظار تصرف الوالي لتبريره على ضوء الشرع المطهر, حتى هزأ بهم كبار الأجراء, وقالوا فتيا بفرخة.
قال منصور الفقيه المتوفى سنة30هـ:
وقال الطانِزون له فقيه *** فصعد حاجبيه وبه وتاها
وأطرق للمسائل أي بأني *** ولا يدري لعمرك ما طَحاها
قال بعض العلماء: قل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قل توفيقه واضطرب في أمره.
وإن كان كارها لذلك غير مختارا له وما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يحيل في الأمر على غيره: كانت المعونة من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.
قال بشر الحافي: من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل.
وذكر أبو عمر عن مالك: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه.
فقال: لا ولكن استفتي من لاعلم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم.
قال ربيعة: “ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالحبس من السراق”.
قال بعض العلماء فكيف لو رأى ربيعة زماننا, وإقدام من لا علم له على الفتيا، وتوبثه عليها, ومد باع التكلف إليها, وتسلفه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب, ولا يبدي جوابا بإحسان, وإن ساعد القدَرُ فتواه، لعله! فتراه كذلك يقول: فلان ابن فلان:
يمدون للإفتاء باعا قصيرة *** وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذلُك

وقد أقام الله سبحانه وتعالى لكل عالم ورئيس وفاضل من يظهر مماثلته ويرى الجهال وهم الأكثرون مساجلته ومشاكلته، وأنه يجري في الميدان، وأنهما عند المسابقة كفرسي رهان، ولا سيما إذا طَوَّل الأدران، وأرخى الذوائب(1) الطويلة، وراءه كذنب الأتان, وهَدَرَ باللسان, وخلا له الميدان الطويل من الفرسان:
فلو لبس الحمار ثياب خز *** لقال الناس يالك من حمار
وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل, وبالمناصب لا بالأهلية, وقد غرَّّهم عكوف من لا علم عنده عليهم, ومسارعة أجهل منهم إليهم, تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا(2), وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا.
فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس: استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتاه, ولا قضائه، هذا كحم دين الإسلام.
وإن رغمت أنوف من أناس *** فقل يا رب لا ترغم سواها
وحقا إن المتعالم يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعوده, فإلى الله الشكوى من تذاؤب أهل زماني.
وفي ترجمة عطاء بن أبي رباح أنه كان يقول: لا أدري نصف العلم، ويقال نصف الجهل.
والإمام الشافعي رحمه الله إذ روي أنه قيل له: إنا نستحيي لك من كثرة ما تسأل فتقول لا أدري، فقال: لكن ملائكة الله المؤمنين لم يستحيوا، إذ سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} البقرة 32.
وقال عبد الله بن داود الهمداني المتوفي سنة 213هـ: “إنما يرجع الفقيه إذا اتسع علمه”.
وفي ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أحد الفقهاء السبعة رحمه الله تعالى أن ابن المبارك قال: كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم, فنظرون فيها فيصدرون.
وكان السراج البلقيني الشافعي المتوفى 805هـ رحمه الله تعالى لا يأنف من تأخير الفتوى عنده إذا أشكل عليه منها شيء إلى أن يحقق أمرها من مراجعة الكتب.
بل اشتهرت معاريض أهل العلم في الفتوى فكان الأصمعي إذا سئل عن شيء لا يعرفه قال: “صلي على نبيك”.
وكان الكسائي يقول في ذلك: “سبحان علام الغيوب جبار القلوب”.
وكان أبو عبيدة يقول:
يا رب لا أدري وأنت الداري *** كل امرئ منك على مقدار
والمفضل يقول: “دع ما يريبك على ما لا يريبك”.
فهؤلاء الأئمة وغيرهم مع جلالة قدرهم، ووافر حرمتهم، وضخامة مسؤلياتهم بعضهم، ذابت هذه الضواهر في عظيم تقواهم، وما نقصهم بل بقوا عناوين افتخار لهذه الأمة, لما كسرَ سلطانُ التقوى لديهم تلك الحواجز المادية والولايات العارضة. اهــ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الذوائب: أطراف العمامة.
2- عجيجا: عج عجيجا، رفع صوته وصاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *