لما كان أهل السنة والحديث أصحاب هدي واتباع, وأرباب عمل واقتداء, عرفوا بصفات أخلاقيّة رفيعة تميزوا بها عن غيرهم, ومن أبرز ذلك وأظهره أنهم أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق, ذلك لأنهم يقبلون الحق حيث كان وممَّن كان, وكما يحرصون على رفع الجهل عن أنفسهم يسعون لرفعه عن غيرهم بالدعوة والإرشاد والبيان, فكانوا أوسع الناس رحمة وأعظمهم شفقة وأصدقهم نصحا, فهم نقاوة المسلمين, وهو خير الناس للناس.
يقول شيخ الإسلام رحمهم الله: “والخوارج هم أول من كفر المسلمين, يكفرون بالذنوب, ويكفرون من خالفهم في بدعتهم, ويستحلون دمهم, وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة يكفرون من خالفهم فيها, وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله, فيتبعون الحق ويرحمون الخلق” الفتاوي 3/279.
وقال كذلك رحمه الله: “وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة, ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”, ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم, لا يقصدون الشرَّ لهم ابتداء, بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم, كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق” الرد على البكري 256-257.
مصدر هذه الخصلة الكريمة
تلقى أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخُلُق العظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فقد كان عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالحق وأعظم الناس رحمة ورأفة, فمن أجل إظهار الحق بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة, ومن أجل نصرة الحق نجده صلى الله عليه وسلم يغضب أشد الغضب إذا انتهكت محارم الله.
قال الله تعالى: ” َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”.
فها هو النبي عليه الصلاة والسلام مع ما لقيَه من الأذى في سبيل دعوته ونصحه للخلق لما سألته عائشة رضي الله عنها قائلة: “يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحُد فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فنادى فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملكُ الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا” صحيح.
السلف والتطبيق العملي للعدل والعلم والرحمة
لقد سار على ذلك سلف الأمة فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعون رأسا من الخوارج وقد جُزَّت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، فقال رضي الله عنه إعلاما للحق: سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم, شر قتلى تحث ظل السماء ثم بكى قائلا: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام. أنظر الاعتصام 1/71.
وكان أويس القرني رحمه الله إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب, ثم يقول: اللهم من مات جوعا فلا تواخذني به, ومن مات عريانا فلا تواخذني به. صفة الصفوة 3/54.
وهذا الإمام أحمد رحمه الله يثبت على كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم, فيقول بكل يقين زمن الفتنة: القرآن كلام الله غير مخلوق, ويصبر الإمام على ما أصابه من أنوع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة آنذاك ومن تبعهم من الخلفاء، ومع ذلك البطش الذي لقيه رحمه الله إلا أننا نجده يقول: “كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا, وقد جعلت أبا إسحاق (يعني المعتصم) في حل, ورأيت الله يقول: “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ”, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح, ثم قال: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك” مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي.
وها هو الإمام ابن تيمية يقول عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله: “جئته يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه, وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع, ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه, فسروا به ودعوا له” المدارج 2/345.
وقال أحد خصومه -وهو ابن مخلوف-: “ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه, وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا” البداية والنهاية 14/54.
وليعلم أن الذي أورث أهل السنة هذه الخصلة العظيمة التزامهم بالعلم والعدل حتى كانوا لكل طائفة من المبتدعة -فضلا عن عامة الناس- خير من بعضهم لبعض، “بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة من بعض, وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا” منهاج السنة 5/157.
وأخيرا ندعوا المسلمين عموما إلى ضرورة معرفة الحق ورحمة الخلق, وأن يسعوا إلى تحقيق العلم والعدل وأن يكونوا جادين صادقين في التزام منهج أهل السنة عقيدة وسلوكا وأخلاقا, والله المستعان.