الخطأ صفة ملازمة للبشر، فإذا استيقن المسلم ذلك وجب عليه أن يرجع عن الخطأ إذا ظهر له الحق، وهذا من كمال الورع والصدق، فالرجل الصادق لا يقف عاجزاً ضعيفاً أمام نفسه حينما يتبين له الخطأ، ولا يتصور أن ذلك قد ينقص قدره أو يضعف وزنه، بل يسارع جاداً إلى الأخذ بزمام الحق، ويعض عليه النواجذ، وهذا يحتاج إلى تلاشٍ لحظوظ النفس وتقديس الذات.
وقد رسم لنا سلفنا الصالح بخصوص هذه الأمر منهجاً واضحاً مشرقاً، فهذا عمر بن الخطاب يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: “ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيت فيه اليوم فراجعت فيك رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقَّ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل” إعلام الموقعين 1/86.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: “من آفات التعصب الماحقة لبركة العلم: أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة، كما يصدر ممَّن يفتي، أو يصنِّف، أو يناظر غيره، ويشتهر ذلك القول عنه، فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه، وإن علم أنه الحق وتبيَّن له فساد ما قاله، ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين، فإنه قد يسوِّل له الشيطان أو النفس الأمارة أن ذلك ينقصه، ويحط من رتبته، ويخدش في تحقيقه، ويغض من رئاسته، وهذا تخيل مختل، وتسويل باطل، فإن الرجوع إلى الحق يوجب له من الجلالة والنبالة وحسن الثناء ما لا يكون في تصميمه على الباطل، بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص له والإزراء عليه بالاستصغار لشأنه.
فإن منهج الحق واضح المنار يفهمه أهل العلم، ويعرفون براهينه، ولا سيما عند المناظرة، فإذا زاغ عنه زائغ تعصباً لقول قد قاله أو رأي رآه، فإنه لا محالة يكون عند من يطلع على ذلك من أهل العلم لأحد الرجلين: إما متعصب مجادل مكابر، إن كان له من الفهم والعلم ما يدرك به الحق ويتميَّز به الصواب. أو جاهل فاسد الفهم باطل التصور، إن لم يكن له من العلم ما يتوصل به إلى معرفة بطلان ما صمَّم عليه وجادل عنه. وكلا هذين المطعنين فيه غاية الشين” أدب الطلب ومنتهى الأدب ص:88-89.
والهوى قد يعمي الإنسان فلا يقبل الحق الواضح الأبلج، لذا حذر أئمتنا رحمهم الله تعالى من هذا المسلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله، يدور على ذلك ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طائفة انتصاراً مطلقاً عاماً إلا للصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يُجمعون على خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسلَّماً إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم” منهاج السنة النبوية، قواعد في التعامل مع المخالف.
ولعل من الأمثلة التي يستشهد بها في هذا الباب لتكون نبراساً للباحثين عن الهدى ما جاء في ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان ثقة في الحديث و”كان من كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حُكي عنه من أنه كان يقول: بأن مجتهد من أهل الأديان مصيب، حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره.
وقد ساق قوله هذا وما شابهه الشاطبي في: الاعتصام وذكر رجوعه عنه، وأنه من باب زلة العالم، وقال كلمته المشهورة: (إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل) اهـ.