إن محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعظم الطّاعات، وأجلّ القربات، فهو سيّد ولد آدم وإمام الورى وقدوة عباد الله والداعي إلى صراطه المستقيم، المبعوث رحمة للعالمين، ومحجّة للسالكين، وحجّة على الخلائق أجمعين، افترض الله على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه صلوات الله وسلامه عليه.
ولما كان لا بد لكلِّ دعوى من برهان يدلُّ على صدقها، فإنّ لدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم سمات وعلامات تدلّ على صدقها، كلّما عظم نصيب العبد وحظُّه منها عظم نصيبه وحظُّه من المحبّة، ولعلّ جماع هذه السِّمات ما يلي:
1- اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والتّمسك بهديه:
قال الله تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (آل عمران:31).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: “هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادّعى محبّة الله، وليس هو على الطّريقة المحمديّة فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشّرع المحمديّ والدّين النبويّ في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ”، ولهذا قال: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ” أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إياه، وهو محبته إيّاكم، وهو أعظم من الأوّل” انتهى ملخصاً من تفسيره.
وشواهد ضرورة الإتباع وأهمية الاتّساء على صدق المحبّة كثيرة.. فعن عبد الرحمن بن الحارث عن أبي قراد السُّلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بطهور غمس يده فيه ثم توضّأ، فتتبعناه فحسوناه، فقال صلى الله عليه وسلم:”ما حملكم على ما صنعتم؟ قلنا: حبّ الله ورسوله. قال: فإن أحببتم أن يحبّكم الله ورسولُه، فأدّوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدّثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم” رواه الطبراني وحسنه الألباني.
2- الإكثار من ذكره ومحبة رؤيته:
قال ابن القيم رحمه الله: “العبد كلّما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبّه تضاعف حبُّه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه. وإذا أعرض عن ذكره وإخطاره وإخطار محاسنه بقلبه نقص حبُّه من قلبه، ولا شيء أقرّ لعين المحِب من رؤية محبوبه، ولا أقرّ لقلبه من ذكره وإخطار محاسنه، إذا قوي هذا في قلبه جرى لسانُه بمدحه والثّناء عليه وذكر محاسنه وتكون زيادةُ ذلك ونقصانُه بحسب زيادة الحبِّ ونقصانه في قلبه” اهـ من جلاء الأفهام.
ومن شواهد ذلك ما رواه مسلم في “صحيحه” عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”من أشدّ أمتي لي حبّاً ناسٌ يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله”.وذكرُه عليه الصّلاة والسلام يكون بذكر مناقبه وشمائله الكريمة وبيان سننه وآثاره العظيمة وبالإكثار من الصّلاة والسّلام عليه. ومحبّة رؤيته صلى الله عليه وسلم ثمرتها عزم صادق وجدّ واجتهاد وتأس واقتداء بهديه القويم، يكسب العبد رؤيته ومرافقته في الجنان.
-3 تعلم القرآن الكريم والعمل به والتأدّب بآدابه:
روى البيهقي في كتابه الآداب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “لا يَسأل أحد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله”.
وحبُّ القرآن وتلاوته وتدبّره هو أعظم أبواب الهداية، فإنّ الله تبارك وتعالى قد أنزل كتابه المبين على عباده هدى ورحمة وضياءً ونوراً وبشرى وذكرى للذاكرين، وجعله مباركاً وهدى للعالمين، يهدي للتي هي أقوم، وصرّف فيه من الآيات والوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى، وجعل فيه شفاءً من الأسقام ولا سيما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات .وحريٌّ بكلِّ مسلم أراد لنفسه بلوغ أعلى درجات المحبِّين الصّادقين أن يعظم حظه من القرآن الكريم بأن يتلوه حقّ تلاوته بتدبر آياته والتفكر والتعقّل لمعانيه، وبالعمل بما يقتضيه، وكما يقول العلامة ابن القيم رحمه اللهّ: “فلا شيءٌ أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبّر والتفكّر؛ فإنه جامعٌ لجميع منازل السّائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبّة والشوق والخوف والرّجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشّكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصّفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكّر حتى مرَّ بآية وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهّم خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبّر وتفهّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن” اهـ من مفتاح دار السعادة.
يُتبع إن شاء الله