معالم من المنهج النبوي في الدعوة -3- ذ.محمد الدرداري أستاذ باحث في فقه المهجر

من المعالم الأساسية للمنهج الدعوي النبوي:
التواضع

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء:214) والتواضع من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية الالتزام بها، إذ لا يستطيع أن يخاطب الناس، ويؤثر فيهم ويغرس في قلوبهم حب المكارم والفضائل إلا إذا نزل من قلوبهم منزلا حسنا، وأحس الناس منه بصفاء في النفس، وسمو في الروح، وشرفا في المقصد.
ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، فلم تكن النبوة لتخرجه عن إنسانيته، بل عاش في قلب مجتمعه وسط الناس، واحدا منهم، كارها التميز عليهم، ولأجل ذلك كان ينهى أصحابه عن المبالغة في مدحه والوقوف له ووضعه في مكانة غير تلك التي ارتضاها الله له.
قال عليه الصلاة والسلام مخاطبا أصحابه: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبدُ الله، فقولوا عبد الله ورسوله” (البخاري:3261).
ومن صور تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يركب الحمار مع قدرته على ركوب الخيل، وكان يردف خلفه بعض أصحابه، ويسلم على من لقيه، ويهش في وجوههم، ويضاحكهم ويلاعبهم، ويضع يده في أياديهم، وكان يعود المرضى ويدعو لهم، ويجلس حيث انتهى به المجلس، ولما دخل عليه رجل يوم الفتح ارتعد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “هون عليك، فاني لست بملك، إنما انأ ابن امرأة كانت تأكل القديد” (مرسل ضعيف؛ سنن ابن ماجه:3312).
إن خلق التواضع من أرقى الأخلاق خدمة للدعوة وتأثيرا في المدعوين، وعلى الدعاة أن يدركوا أن الناس لا يسمعون لمن يتكبر عليهم، ويرى نفسه أفضل منهم، وإنما الناس تبع لمن يتواضع معهم، ويتذلل بين أيديهم، ويخدمهم بفعله كما يخدمهم بقوله.
فكن متواضعا أيها الداعية، ولا تتحرج إن سئلت فلم تدر أن تقول لا أدري، فقد قالها من هم أفضل منك.
قال القاسم بن محمد -وقد سئل عن شيء-: “لا أحسنه، والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به” (جامع بيان العلم وفضله 2/272).
وإذا أخطأت يوما فلا يزين لك الشيطان زلتك، بل اعترف بها أمام الناس، حتى لا يزلوا بسببك فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وإذا جهلت شيئا أو تشككت فيه فاسأل من هم أعلم منك، فإن السؤال مفتاح العلوم، وإذا نصحت فلا يضق صدرك بها حتى وإن كان الناصح أقل علما منك، وإذا تعرضت للإساءة من أحدهم فقدم العفو وتجاوز واستحضر قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف:199.

لين القول
فإن الداعية ليس بالسباب ولا الشتام.
قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) إذ الواجب على كل داعية أن يدعو إلى ربه برفق ولين وإحسان، ويتجنب كل أسلوب فيه تجريح للمشاعر أو احتقار للآخرين.
وتبدو قيمة هذه الخصلة في الدعوة إلى الله، ما خاطب به الله تعالى موسى وأخاه هارون حينما قال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{43} فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:42-43).
قال ابن كثير: “هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون كان في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين” (تفسير القران العظيم 5/260).
وقال الإمام الشوكاني: “أمرهما بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ ذي بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه. يقال لأن الشيء يلين لينا، والمراد تركهما للتعنيف” (فتح القدير؛ ص:911).
كما تبدو قيمتها أيضا في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة؛ القائم على الرفق واللين والمخاطبة بالتي هي أحسن، فاستطاع بذلك أن يفتح مغاليق القلوب ويحييها بعد أن غشتها ظلمة الجاهلية.
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة رائعة في اللين في الدعوة.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتى فتى شابا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه وقالوا: مه مه. فقال: أدنه. فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك. قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك. قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أتحبه لأختك. قال، لا والله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أتحبه لعمتك. قال: لا جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أتحبه لخالتك. قال: لا ولله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء” (أخرجه أحمد:21708).
فأنت ترى أن النبي صل الله عليه وسلم لم يعنف هذا الشاب الذي جاء يستأذن في ارتكاب كبيرة من الكبائر، بل ناقشه مناقشة هادئة، مليئة بالرفق واللين، أفضت به إلى استقباح هذا العمل والعدول عنه.
فاحذر أيها الداعية أن تغلظ القول في دعوتك فينفر الناس عن الركون إليك، ويعرضوا عن السماع منك، فإن الرفق كما قال النبي صل الله عليه وسلم: “لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه” (صحيح مسلم:2594).
فكم من قلوب صلدة لا تلينها إلا الكلمة الطيبة، وكم من نفوس تائهة لا يرشدها إلا القول الحسن الجميل.

الأمل وعدم اليأس
كما يجب على الدعاة ألا يستعجلوا في قطف ثمار دعوتهم، وألا يركبهم اليأس إذا نفر الناس منهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم، ولهم في أنبياء الله القدوة الحــسنة.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام، مكث في دعوة قومه إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين عاما، فما تبعه إلا القليل.
ونبينا محمد صل الله عليه وسلم اشتد عليه قومه وآذوه وضربوه حتى جاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: لا. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله.
فعلى الداعية أن يدرك أنه بدعوته يبرئ ذمته بين يدي الله تعالى، ويقوم بواجبه الديني الذي ورثه إياه رسول الله، وأنه لن يسأل لماذا لم يهتدي الناس، بل سيسأل لماذا لم تدع الناس وترشدهم إلى طريق الخير والرشاد.
ومتى تسرب اليأس والقنوط إلى نفوس الدعاة، وقفوا في منتصف الطريق، وفوتوا على أنفسهم وأمتهم الخير الكثير.

التعفف عما في أيدي الناس
والترفع عن متاع الحياة الدنيا، وتلك أرقى الأخلاق وأفضلها خدمة للدعوة. فإن الداعية متى تطلع إلى ما في أيدي الناس، وتاقت نفسه إلى شيء مما عندهم، لم يعد لدعوته أي قبول في نفوسهم، وربما ازدروه واحتقروه لأجل ذلك.
فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبي صل الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله، وأحبني الناس. فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس” (سنن ابن ماجه: 4102).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *