إرشاد الأكياس إلى عدم بث من أحاديث الفتن ما لا تبلغه عقول الناس “الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء”

قام منهج أهل السنة على قواعد شرعية وضوابط مرعية فهو منهج فريد ومتين في سائر أبواب الدين ومن ذلك منهجية التعامل مع الأحاديث -عموما- استنباطا واستدلالا واحتجاجا، ومع أحاديث الفتن والملاحم خصوصا.

فقد تميز منهج أهل السنة بعدم بث من أحاديث الفتن ما لا تبلغه عقول الناس، أو الأحاديث التي تحرك الفتن والمحن، كل ذلك مراعاة للمصلحة الراجحة، “فما كل ما يعلم يقال” كما قال الإمام مالك رحمه الله. انظر البداية والنهاية 10/174 والجامع لأحكام القرآن 10/80.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “..وأما كتمان العلم في بعض الأحوال أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق فجائز للمصلحة..” القول المفيد.
ولا يدخل ذلك في النهي عن كتمان العلم كما في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ”.
قال الإمام القرطبي رحمه الله عند هذه الآية: “..لما قال تعالى (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) دلَّ على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثته، وأما الآخر فلو بثته قطع هذا البلعوم) أخرجه البخاري، قال أبو عبد الله: البلعوم: مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنصِّ على أعيان المرتدين والمنافقين ونحو ذلك، هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى والله تعالى أعلم” الجامع لأحكام القرآن 2/181.
وفي سير أعلام النبلاء 2/597-598: “..عن مكحول قال: كان أبو هريرة يقول: رب كِيسٍ عند أبي هريرة لم يفتحه -يعني من العلم- .
قلت (أي: الذهبي): “هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام، فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى.. لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء لأوذي بل لقتل، ولكن العالم قد يؤدي به اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة فله ما نوى وله أجر وإن غلط في اجتهاده”.
وكما مر معنا فبث مثل هذه الأحاديث قد توقع كثيرا من الناس في الفتنة لسوء فهمهم لها مما يجب معه مراعاة ما تبلغه عقولهم.
ولهذا الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بوب بما يفيد ذلك ففي كتاب العلم: “باب من خصَّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا”.
“باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه، فيقعوا في أشد منه”.
وأخرج مسلم في مقدمة صحيحه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
وعند البخاري في صحيحه قال علي رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟”.
قال الحافظ في الفتح عند هذا الأثر: “..وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود (ثم ذكره)، وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من خشي عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم”.
إذن يجب علينا مراعاة هذا الضابط عند أهل السنة في خصوص أحاديث الفتن أو التي تحرك المحن كل ذلك طلبا للسلامة والنجاة فإن “الفتن إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: “وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً”، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله” منهاج السنة النبوية 4/343.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *