مما لا شك فيه أن العلماء كغيرهم من الناس, هم عرضة للخطأ والغفلة والسهو, فتصدر منهم الزلات, وتقع منهم الكبوات فإن” درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر” الفتاوي20/252.
قال الصنعاني رحمه الله في معرض ذكره لزلة وقعت من بعض العلماء: “فهي من النوادر التي تقع لأفراد العلماء مثل مالك والشافعي وغيرهما ما أحد منهم إلا له نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب” سبل السلام 1/37.
ومن الأبواب التي فتحها الشيطان على مصراعيها -في هذا الصدد- للتلبيس على العباد باب تتبع رخص الفقهاء (والمراد بالرخصة هنا: أهون أقوال العلماء في مسائل الخلاف, وليست الرخصة المشروعة كقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك من الرخص الشرعية) وزلاتهم, وتصيد الشاذ1 من الأحكام, فخدع بذلك الكثيرين من جهلة المسلمين فانتهكت المحرمات، وتركت الواجبات تعلقا بقول زيف وتمسكا برخصة كالطيف!!
مفاسد تتبع الرخص والشاذ من الأقوال
استعرض الشاطبي رحمه الله جملة من هذه المفاسد فقال: “كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف, وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط, وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم, وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف, فتجور القضاة في أحكامها, فيفتي القاضي لمن يحب بالرخصة ولمن لا بالتشديد, فتسود الفوضى والمظالم, وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق الإجماع…” الموافقات4/147-148.
الزجر عن تتبع الرخص والأخذ بالشاذ من الأقوال
الإشاعة لغثاتة الرخص والتجسيد للآراء الشاذة وتربية مولودهما “التلفيق” بمعنى جمع الرخص والشواذ: منابذة للاعتقاد السليم, بل هي من صنع العداء, ومحتضنها يكون بأسا على المسلمين وبلاء.
فلله كم تربع على وكر هذه الفتنة من مارد, وأبرزها باسم الشريعة من متحايل على شبه يبديها أو يبتديها, والقلوب ضعيفة والشبه خطافة.
ولذا اتفق أهل العلم على تحريم تلقط الرخص وتتبع الشواذ من الأقوال وإفتاء الناس بها.
قال سليمان التيمي رحمه الله: “لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله”. قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله معقبا: “هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا” الجامع 2/91-92.
وممن حكى الاجماع على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله كما نقل عنه ذلك الشاطبي رحمه الله في الموافقات4/134.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي رحمه الله: “دخلت يوما على المعتضد فدفع إلي كتابا فقرأته، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس فقلت: يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق فقال: كيف؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء, ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو, ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر بتحريق ذلك الكتاب”.البداية و النهاية لابن كثير- رحمه الله – 11/87
شبهة والجواب عليها
يحتج متتبعوا الرخص بكلام حق لكن يراد به باطل, فهم يبررون مسلكهم هذا بأن الدين يسر وبأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث بالحنيفية السمحة مستدلين بقوله تعالى: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ” وقوله عليه الصلاة والسلام: “بعثت بالحنيفية السمحة” حديث حسن.
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من المعاظلة والمغالطة, وخلط الحق بالباطل.
قال ابن حزم رحمه الله رادا على من استدل بالآية: “فإن احتج بقوله: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ” فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى به فهو يُسْر بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)”الأحكام 869.
أما الاستدلال بالحديث فقد أجاب عنه الإمام الشاطبي رحمه الله حيث قال: “وأنت تعلم.. ما في هذا الكلام لأن الحنيفية السمحة إنما أتى السماح فيها مقيدا بما هو جار على أصولها, وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي ثابت, فما قاله عين الدعوى! ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس, والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه, ومضاد أيضا لقوله تعالى: “فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ” فلا يصح أن يردَّ إلى أهواء النفوس, وإنما يرد إلى الشريعة, وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه” الموافقات 4/145.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قال ابن حزم رحمه الله: “إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق, فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ…” انظر تتمة كلامه هذا فهو نفيس في كتابه الأحكام 5/661-662.