في ظلال آية أبو يونس محمد الفرعيني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طـه:61).
قال الشوكاني: أي: خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله أيَّ كَذِبٍ كان. (فتح القدير 5/9).
وقال ابن قتيبة: الافتراء: الاختلاق.
وقال ابن عاشور: وأصل الافتراء الاختراع، وغَلَب على اختراع الخبر، أي اختلاقه، فساوَى الكذب في المعنى. (التحرير والتنوير 8/131).
وأعظم الافتراء الإشراك بالله؛ قال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء:48).
وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21).
قال السعدي (1/253): أي: لا أعظم ظلما وعنادا، ممن كان فيه أحد الوصفين، فكيف لو اجتمعا، افتراء الكذب على الله، أو التكذيب بآياته التي جاءت بها المرسلون، فإن هذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبدا.
وقال الآلوسي في تفسيره (5/272): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بادعائه أن له جل شأنه شريكاً وبقوله الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. الخ.
ومن الافتراء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منه براء؛ مثل قولهم كاهن أو شاعر أو مجنون على خلاف ما يعرفونه من وفور عقله وكمال خلقه وخلقه، وقد برأه الله من ذلك كله، وبين سلامته من كل نقص وعيب.
وكذلك زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن وأنه تقوله، وأنه يعلمه بشر، وأنه أتى بأساطير الأولين. فنفى ربنا مزاعم الكفرة، وتحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة من مثله، فأعجزهم وأفحمهم.
ومن الافتراء ادعاء وقوع التحريف في القرآن؛ وقد تكفل الله بحفظه؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
ومن الافتراء عيب الشريعة ووصفها بالتعارض. والله يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (النساء:82).
ومن الافتراء الطعن في حكمة التشريع. والله الحكيم هو القائل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} (الأنعام:115). أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.
ومن الافتراء تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله؛ قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل:116).
ومن الافتراء القول على الله بغير علم؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء:36). وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33).
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/38): وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها؛ فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم؛ وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.
ومن الافتراء رمي الأبرياء بما ليس فيهم، وقذف المحصنات، والاستطالة في أعراض المسلمين، والطعن في الأنساب، والإشاعات التي تبلغ الآفاق، وغير ذلك.
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (4/1211-1212): وأخبر سبحانه أنه لا بد أن ينالَ المفترين غضبٌ من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وأعظم الافتراء الفرية عليه سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يُسْحِتهُم بعذابه أي يستأصلهم، قال تعالى إخبارا عن كليمه موسى أنه قال لرؤوس المعطلة وأئمتهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}.اهـ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *