في ظلال آية أبو يونس محمد الفرعني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24).
(والتدبر هو النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء). (تفسير الثعالبي 1/332)
قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، قال ابن كثير: (أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مُطْبَقَة لا يخلص إليها شيء من معانيه) (تفسير القرآن العظيم 7/320).
قال ابن الجوزي: (وذكر الأقفال استعارة، والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى).
وهذه الآية دليل على وجوب تدبر القرآن. والقلب في حاجة إلى تدبر القرآن لعظيم بركته وجلال قدره، ولأن الله أثنى على من تدبره، وذم من لم يفعل ذلك، والتدبر داخل في النصح لكتاب الله.
قال تعالى مثنيا على عباده المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2).
{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} (الإسراء: 107).
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23). وغيرها من الآيات.
وهذه كلها آثار لا تحصل للعبد إلا بالتدبر.
وقال ذاما من لم يفعل ذلك: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (النساء: 82). وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68). وبين سبحانه أن من حِكَم إنزال القرآن تدبر آياته: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص: 29).
وضرب الله مثل السوء لمن حملوا التوراة ثم لم يحملوها، ويدخل في عموم ذلك من يأخذ القرآن من أهل القبلة ثم لا يفهمه ولا يعمل به. وذم الخوارج مع كثرة تلاوتهم لأنهم يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم.
قال النووي: (المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب). (انظر فتح الباري 19/389)
قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21).
قال القرطبي: (حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي متشققة من خشية الله.. وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده). (تفسير القرطبي 18/44).
والقرآن أنزل لتدبره ولذلك شرع لنا كل ما يعين على ذلك من الاستعاذة قبل تلاوته وحسن ترتيله والتغني به وقراءته في صلاة الليل والإنصات عند سماعه ومراعاة الوقف والابتداء إلى غير ذلك من المعاني.
قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98).
وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204).
قال الشوكاني: (أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته؛ لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح). (فتح القدير 3/141).
وفي قصة استماع النبي صلى الله عليه وسلم لقراءة ابن مسعود وبكائه، يقول ابن بطال: (معنى استماعه القرآن من غيره والله أعلم ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون كي يتدبره ويفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس القارئ؛ لأنه في شغل بالقراءة وأحكامها). (شرح البخاري ابن بطال 19/365).
واعلم أن الصوارف عن تدبر القرآن كثيرة، وهي الأقفال التي تحول دون خلوص الهدى والنور إلى القلوب من أعظمها الإصرار على الذنوب وشرود الذهن وقصر معاني الآيات على أسباب نزولها، بحيث لا يعتبر بما نزل في اليهود أو النصارى أو المنافقين، وشدة التعلق بالدنيا، والهذرمة والسرعة في القراءة، بحيث يكون همه آخر السورة فيهذ كهذ الشعر، والتقصير في تطلب معاني غريب القرآن.
يقول الزركشي: «واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب أو في قلبه كبر أو هوى أو حب الدنيا أو يكون غير متحقق الإيمان.. فهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض». (البرهان في علوم القرآن 2/180).
وقال ابن القيم: فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن. (مفتاح دار السعادة 1/187).
وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته. (معجم الأدباء 2/368).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *