الإسناد من خصوصيات هذه الأمة التي امتن الله به عليها دون سائر الأمم، قال الحافظ بن الصلاح: “أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة” .
وقال الإمام القسطلاني: “قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها من الأمم: الإسناد، والأنساب، والإعراب” .
والمقصود بطلب الإسناد في هذا الباب معرفة القائل ومصدر الخبر عند تضارب الشائعات، ليرد الإنسان عن نفسه التهم، ويسكت المفتري، ويتعرى المروجون للأباطيل، فتسقط الثقة بأخبارهم عند عقلاء القوم، الباحثين عن الحق والإنصاف.
لذا توافرت النصوص عن سلفنا الصالح رحمهم الله في الحث على لزوم الإسناد والاهتمام به والمحافظة عليه، فمن ذلك:
قول عبد الله بن المبارك رحمه الله: “الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدثك بقي” أي أفحم فظل ساكتاً لا يستطيع الجواب.
فتأمل رحمك الله في قوله: “لقال من شاء ما شاء” فقد عد الإسناد لجاماً للثرثارين، وباباً موصداً على المتسرعين، وحصناً منيعاً في طريق المرجفين، وبدونه تصبح الأمور خبط عشواء، وتكون أعراض المسلمين كلأ مباحاً لأصحاب الأهواء ذوي النفوس المريضة، والمقاصد السيئة، اللهم سلِّم.
وقال سفيان الثوري: “الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل” .
واشترط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تسمية القائل والناقل، لإثبات صدق الخبر حيث قال: “من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمِّ القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب” .
إنها الضوابط الشرعية المبنية على العدل والإنصاف التي لا يعتريها غموض، أو يشوبها غبش. والاهتمام بالإسناد عند أئمتنا لم يقتصر على الأحاديث والآثار فقط بل حتى في الطرائف والأخبار المستملحة، ومن ذلك ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق: أخبرنا أبو الحسن المظفر بن يحيى الشرابي: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد المرثدي: حدثنا أبو إسحاق الطلحي: حدثني أحمد بن إبراهيم قال دعا إنسان أشعب فقال أشعب: لا والله ما أجيئك، أنا أعرف الناس بك وكثرة جموعك، قال له: علي أن لا أدعو أحداً سواك، فأجابه، قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم صبي وهو في غرفة فصاح أشعب: أي أبا فلان، تعال ها هنا من هذا الصبي شرطت عليك أن لا يدخل علينا أحد، قال: جعلت فداك يا أبا العلاء، هذا ابني وفيه عشر خصال، ما هن في صبي؟ قال وما هن فديتك؟ قال: لم يأكل مع ضيف قط، قال: حسبي التسع لك .
هذا وإن من يبتلى بالكلام في الناس مع عدم التثبت مآله إلى الندامة والحسرة، ومهدد بعقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم. ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور…
وأشدُّ الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة خصوصاً فيما يوجبه الغضب، فإنه بنزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم، فالله الله، التثبت التثبت في كل الأمور في عواقبها، خصوصاً الغضب المثير للخصومة” .
بل صرَّح الإمام أحمد بما هو أوضح من ذلك حيث قال: “ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه، قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس وكانت له مجالس، وكان صحيح الحديث، إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد، فهذب حديثه وذِكْرُه.
وفي رواية الأثرم قال: إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحداً يذكره، وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر فدعا عليه، قال أحمد: فأراه استجيب له.
قال ابن مفلح: والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق” .
وقال أبو زرعة: كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم، وكل من يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه .
فهل بعد هذه النصوص والضوابط والتحذيرات من أئمة السلف يطلق عاقل العنان للسانه ليفري في أعراض المسلمين، لحجة واهية، أو تأويل متكلف، أو سوء ظن أو هوى غلاب، أو طمع في الدنيا؟ لا أظن ذلك كذلك.
ورحم الله القائل:
لا ترسلنَّ مقالة مشهورة *** لا تستطيع إذا مضت إدراكها
لا تبدينَّ نميمة نبئتها *** وتحفظن من الذي أنباكها
(عن كتاب: فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف، د.عبد الرحمن المدخلي).