ما أحوج الناس في زمن التيه والشبهات، ووقت الفتن المضلات، والإحن المدلهمات، إلى سبل النجاة والكفاية، وطرق السلامة والوقاية، ذلك لأن أيام الفتن والأهواء تغير أحوالَ جموعٍ من الناس، وتقلب مناهج كثير من الخلق، وتشوش تصور جمع من النظار، فهي أيام تذهَلُ فيها النفوس عن النصوص، ويغيب فيها عن الألباء ما قرره الحكماء، ويعجز فيها العقلاء عن دفع ما يبثه السفهاء، والموفق من أعانه رب الأرض والسماء.
ومن أعظم أسباب النجاة من المحن، والعصمة من الإحن: الإقبال على عبادة الله تعالى وطاعته والتقرب إليه، فبمقدار ذلك تكون الكفاية والصيانة، كما قال تعالى: “أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ”.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه” الوابل الصيب 13 – صحيحه.
ولا شك أن زمننا هذا زمن التقلبات وشدة البلايا والأزمات، بحيث يعظم فيه أمر اللجوء إلى خالق البريات، والفرار إلى رب الأرض والسموات، ومما يعين على ذلك وييسره -بعد توفيق الله تعالى- حلول شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والبركات، وشهر الطاعات والقربات، فإن في أيامه الغراء يتحسس الناس نفحات ربانية تكرما من رب البرية، كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: “هذا رمضان قد جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين” الصحيحة.
ففي هذا الشهر الكريم يقبل أهل الإسلام عموما على الإكثار من الطاعات، والحرص على أنواع العبادات، طمعا في الغفران والعتق من النيران، ورجاء في المعافاة والرحمات، قال عليه الصلاة والسلام : “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” متفق عليه.
فمن فضل الله علينا أن جعل لنا مواسم فاضلات كمحطات لتزويد القلوب بالإيمان، وتطهير النفوس من أثر الذنوب والعصيان، جعل لنا مواسم للخيرات تعلوا فيها الهمم، وتنشرح فيه النفوس لبلوغ القمم، وأعظم هذه المواسم -كمال لا يخفى- شهر المغفرة والتوبة، وأيام الإنابة والأوبة، فاحرص فيها أيها العبد على الإكثار من العبادة والطاعة، واستحضر ضرورة القيام بذلك في زمن الفتن والشبهات على اختلاف ألوانها وتنوع أشكالها: فتن وشبهات عقدية، وأخرى أخلاقية، وثالثة فكرية، ورابعة عدوانية من اهتزازات وابتزازات واستفزازات.. وهكذا دواليك، فتن مقحمة متأججة خارجية وداخلية.
فانوِ أيها العبد- إضافة إلى ما تنويه- بإقبالك على الطاعة، وحمل نفسك على اجتناب النهي، وامتثال الأمر في هذا الشهر الأغر أنك تريد كفاية الله لك من اجتياح الفتن المضلة، والسلامة من مغبة المحن الملمة، انوِ بذلك طلب الثبات إلى الممات، ورجاء العصمة والنجاة متذكرا قوله عليه الصلاة والسلام:” العبادة في الهرج كهجرة إلي” رواه مسلم وغيره، وبوب عليه النووي رحمه الله فقال: “باب فضل العبادة في الهرج”.
وفي رواية: “عبادة في الهرج أو الفتنة كهجرة إلي” صحيح الجامع.
وفي رواية ثالثة: “العبادة في الفتنة كهجرة إلي” صحيح الجامع.
والفتنة عند الإطلاق ترجع إلى فتن الشبهات والشهوات كما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 15.
أما الهرج فالمراد به هنا: الفتن واختلاط أمور الناس، كما في شرح مسلم للنووي رحمه الله 18/88.
قال الأبيّ رحمه الله: “وجه التشبيه أن المهاجر فر بدينه ممن يصده عنه إلى الاعتصام برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المنقطع للعبادة في الفتنة فرَّ عن الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه عز وجل فهو مهاجر إلى الله سبحانه وتعالى” إكمال إكمال المعلم 7/283.
وقال النووي رحمه الله: “..وسبب كثرة فضل العبادة فيه (أي زمن الفتنة والهرج) أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد” شرح مسلم.
فاحرص أيها لحبيب على استحضار تلكم النية عند إقبالك على الطاعات في شهر الخير والبركات عسى أن تسلم من آفات الفتن المضلات، والتوفيق من رب الأرض والسماوات.