بعد أيام تحل بالعالم مناسبة رأس السنة الميلادية التي يغتنمها النصارى للاحتفال بما يعتبرونه عيد ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام، ويشابههم في هذا الصنيع كثير من المسلمين حتى وصل الأمر بأغلب الدول العربية والإسلامية أن اعتبرت هذا اليوم يوم عطلة في المؤسسات الرسمية.
ولقد “تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين رجالا ونساء التشبه بغير المسلمين، سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم، وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية، خرج عنها اليوم مع الأسف كثير من المسلمين حتى الذين يُعنون منهم بأمور الدين والدعوة إليه، جهلا بدينهم أو تبعا لأهوائهم أو انجرافا مع عادات أوربا.. حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم وسيطرة الأجانب عليهم واستعمارهم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد، لو كانوا يعلمون”، حجاب المرأة المسلمة، (بتصرف يسير).
وهذا الذي سلكه المسلمون من التشبه هو عين ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتَّى لَو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اليَهُودَ والنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟” رواه البخاري ومسلم.
ولقد حذر الله من اتباع سبيل غير المسلمين فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) الجاثية 18.
وقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) الحديد.
قال ابن كثير شارحا هذه الآية: “..نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية”.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُو مِنْهُمْ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وقد اجتمعت كلمة أهل العلم على حرمة التشبه بغير المسلمين في أعيادهم وغيرها، قال الإمام الذهبي: “فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم” (تشبه الخسيس بأهل الخميس).
وقال ابن التركماني: “فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح أو طبخ أو إعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم” (اللمع في الحوادث والبدع 2/519).
وقد قال الونشريسي في موسوعته في النوازل: “سئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسميها الناس الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيمًا لليوم، ويعدونه رأس السنة، أترى ذلك -أكرمك الله- بدعة محرمة لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحدًا من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح؟
فأجاب: قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت، وكل ما ذكرته في كتابك فمحرم فعله عند أهل العلم، وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك، ورويت أيضًا أن يحيي بن يحيي الليثي قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام..
وقال الفقيه المالكي سحنون التنوخي صاحب المدونة: “لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدعوة فيه ولا الاستعداد له”.
و”نقل عن عبد الملك بن حبيب من علماء المالكية قوله: “ألا ترى أنّه لا يحلّ للمسلمين أن يبيعوا من النصّارى شيئا من مصلحة عيدهم ؟ لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يُعارون دابّة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأنّ ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم..” الاقتضاء ص: 229 ، 231 ط. دار المعرفة بتحقيق الفقي .
ورب قائل يقول: لم كل هذا الرفض لأمر التشبه بالنصارى في عيد أو عيدين أو مظهر أو اثنين؟ فالجواب أن “المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبا وتشابها في الأخلاق والأعمال ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار ومشابهة الأعاجم ومشابهة الأعراب، ونهى كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر كما في الحديث المرفوع: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُو مِنْهُم” مجموع الفتاوى 22 / 154.
إن كل من بقي في نفسه حبة من خردل من عزة الإسلام، ونخوة المسلمين، واستحضر ما عاناه أجدادنا وأسلافنا وما ذاقوه من “المستعمر” الأوربي الصليبي وعرف ما يكيده لنا القوم بالليل والنهار ليجردونا من عقيدتنا، ويفسخونا من ديننا ويقضوا على ما تبقى من هويتنا، لكفاه ذلك ليكره أن يحتفل بعيد من أعيادهم.
وفوق هذا جميعه لابد أن نعلم أن الحضارة الغربية تحوي الغث والسمين، والطيب والخبيث، والصالح الفاسد، فيها أمور علمية نافعة في الطب والصيدلة والهندسة والاختراعات العلمية الجيدة.. وفيها أخلاق منحلة وخلال فاسدة فلا نزهد في نافعها ونأخذ ضارها. نزهد في طيبها ونأخذ خبيثها فقد انحصرت مواقف الناس “من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها حصرا عقليا لا شك فيه:
الأول: ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها.
الثاني: أخذها كلها نافعها وضارها.
الثالث: أخذ ضارها وترك نافعها.
الرابع: أخذ نافعها وترك ضارها..
فنجد ثلاثة باطلة بلا شك وواحدا صحيحا بلا شك” وهو الموقف الرابع.
ومع الأسف فإن عامة المسلمين اليوم إلا من رحم الله، قد يمموا خبيث المظاهر الغربية وسيء الطبائع فيها وزهدوا في كل نافع مما يأتي منها، وهم في صنيعهم هذا يحسبون أنفسهم ساعين في مدارج التقدم الحضاري والرقي المدني، وهم لا يزيدون بذلك إلا بعدا عن منهج التقدم القويم.