الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ شرعه إلى الناس هي المهمة الأولى للأنبياء والرسل، وهي أعظم أمانة حملها البشر على الأرض منذ أن خلق الله تعالى الكون، ولقد تعرض هؤلاء في سبيلها إلى أشد أنواع التنكيل والعذاب، فقتل منهم من قتل، وضرب من ضرب، وسجن من سجن، وألقي ببعضهم في النار.. وهكذا.
فلم يزدهم ذلك إلا إصرارا وإقداما، ولم يزد أعداءهم إلا تعنتا وتجبرا. قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} (الأنعام:35)، وقال تعالى مخاطبا بني إسرائيل: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (البقرة:86).
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، فقد نال حظه من ذلك، فكالَ له قومه من التهم حتى قالوا أنه مجنون قال تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر:6)، واتهموه بالسحر والكذب، قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. (ص:3).
يقول ابن هشام متحدثا عن اضطهاد كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: “قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.
فبينا هم في ذلك، إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفا بالبيت، فلما مرَّ بهم غمزوه ببعض القول قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مرَّ الثالثة فغمزوه بمثلها.
ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح.
قال، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه) يهدئه) بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا.
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط”.1
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته -رغم ما لقي من قومه- إلى أن لقي ربه رابط الجأش، قوي القلب، صابرا محتسبا، فأنقذ الله به البشرية من الضلال، وأرشدها إلى ما فيه خيرها وصلاحها في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى:49).
وبموته صلى الله عليه وسلم لم تتوقف مهمة الدعوة إلى الله، بل ورثها العلماء العاملون من أمته، يقول صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر”2.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية”3.
وقال عليه السلام: “من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا”4.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الكاملة، والأسوة الحسنة، فبلغ رسالة ربه كما أمر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (المائدة:69)؛ فلم يذق طعم الراحة طيلة ثلاث وعشرين سنة، بل قضاها مشمرا، داعيا إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشريك عنه، فرسم لنا بذلك منهجا دعويا متكاملا، محدد المعالم، واضح الملامح، يجب على كل من ورث عن النبي وظيفة الدعوة أن يجعله نصب عينيه، حتى تكون دعوته إلى الله على بصيرة كما قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:10).
وللبحث بقية..
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة ابن هشام 1/239-240.
2- سنن أبي داود، كتاب العلم ، باب الحث على طلب العلم رقم الحديث:3641
3 صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل رقم الحديث:3274.
4 صحيح مسلم، كتاب العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة رقم الحديث:2674.