الواجب على المسلم العامي (1) الذي لا يحسن النظر في الدليل أن يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة, كما قال تعالى: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى “الْبَيِّنَاتِ”: “أي: بالحجج والدلائل”. تفسير ابن كثير رحمه الله 2/570.
ومن ثم فلا يجوز للعامي أن يسأل في أمر الدين والشرع من يظنه غير عالم ولا متدين, أو مجهول الحال ونحو ذلك, لاحتمال انتفاء صفة العلم والاجتهاد فيه, إذ الأصل في الإنسان عدم العلم لقوله تعالى: “وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً”.
وعليه فإن مذهب العامي مذهب مفتيه كما قرر أهل العلم.
قال الشوكاني رحمه الله: “وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فالإجماع على ذلك”, إرشاد الفحول560.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: العوام على مذهب علمائهم”. لقاءات الباب المفتوح 3/79.
ومما ينبغي الانتباه إليه في ذلك, أن المسلم إذا سأل من يثق في علمه ودينه, يجب عليه أن يتبع قوله في فتياه التي استفتاه فيها, ولا يجعل دينه عرضة للهوى والشهوة, فيسأل أكثر من عالم طلبا لما يهواه ويشتهيه. أنظر الموافقات 4/133, وإرشاد الفحول 271.
وضابط ذلك أن تطمئن نفسه وينشرح صدره لفتوى مفتية, وإلا في حالة ما إذا حاك في صدره شيء من الفتوى, فله أن يسأل الثاني والثالث حتى يحصل له الاطمئنان والانشراح.
ومن الأدلة على ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا حيث سئل العالم بعد ما دل عليه في المرة الثانية عند ما حاك في صدره كلام الراهب في المرة الأولى.
قال ابن القيم رحمه الله: “لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه, وحاك في صدره من قبوله..”.
وقال الشيح محمد علي بن آدم بن موسى الإثيوبي حفظه الله ناظما في معرض الكلام عن آداب المستفتي:
ثالثها إن نفسه لم تطمئن سأل غيره إلى أن يطمئن
وقال شارحها: “وحاصل المعنى أنه لا يجوز للمستفتي العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه إليها, وكان يعلم أن الأمر في الباطن, بخلاف ما أفتاه به, ولم تخلصه فتوى المفتي من الله تعالى: كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فمن قضيت له بحق مسلم, فإنما هي قطعة من النار, فليأخذها, أو ليتركها”, فعلى المستفتي أن يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة, إذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي, كأن يعلم المستفتي جهل المفتي ومحاباته في فتواه, أو عدم تقيده بالكتاب والسنة, أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل, والرخص المخالفة للسنة, وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه, وسكون النفس إليها” المنحة الرضية في شرح التحفة المرضية”3/173-174.
وفي هذا الباب دسيسة ينبغي التفطن لها قد نبه عليها العلماء رحمهم الله.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “قال خاتمة المحققين ابن حجر الهيثمي في شرحه الأربعين النووية..ما نصه: “وها هنا دسيسة ينبغي التفطن لها وهي أن المجتهد بحق قد يرى رأيا مرجوحا، فهو وإن أثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولوكان من أقوال غيره لم ينتصر له, لأن انتصاره حينئذ مشوب بإرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأن لا ينسب إلى الخطأ, وهذا كله قادح في قصد الانتصار للحق, فافهم ذلك فإنه مهم ويخفى على كثيرين” الصوارم والأسنة, والكلام نفسه ذكره ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سمي العامي بهذا الاسم: قيل من العمى, لأنه بيد من يقوده وقيل: من العموم.