التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به، وذلك الشيء يسمى قلادة والجمع قلائد.
وقد يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص كأن الأمر محمول في عنقه كالقلادة.
وفي الاصطلاح: هو قبول قول من ليس قوله حجة من غير معرفة دليله.
فخرج بالقيد الأول: قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالإجماع؛ فإن ذلك حجة بنفسه.
وخرج بالقيد الثاني: قبول قول من ليس حجة إذا بين الدليل وأظهره؛ فإن الأخذ بالدليل الذي أخبر به لا بقوله ويسمى ذلك اتباعًا لا تقليدًا. (مذكرة تسهيل الوصول إلى فهم علم الأصول).
حكم التقليد:
تكاثرت النصوص الشرعية الدالة على تحريم التقليد، وأنه يجب على المسلم البحث عن دليل القائل، وأن لا يسلم له تسليما كتسليمه لما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض). أخرجه الحاكم وهو صحيح.
ومفهوم الحديث أن التمسك بغير الكتاب والسنة وإنما بقول عالم من العلماء وتقليده بغير حجة واتباع قوله بغير دليل يؤدي ذلك إلى الضلال، والله المستعان.
قال ابن عبد البر رحمه الله في كتاب جامع بيان العلم (2/994 ):
يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟
فإن قال: قلت: لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني.
قيل له: العلماء، إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت به بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟
فإن قال: قلدته لأني علمت أنه صواب، قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع؟
فإن قال: نعم، فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد في ذلك خلقاً كثيراً أو لا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك. انتهى.
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرْسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا تحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (19/262): والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع: أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك.
وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى (20/584): وليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص، فمالك والليث بن سعد والأوزاعي، والثوري، هؤلاء أئمة في زمانهم كل منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد هذا دون هذا.
وقال رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى (20/215): وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه المعارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر فكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه وهذه سواء). انتهى. (أصول الفقه على منهج أهل الحديث؛ زكريا بن غلام قادر الباكستاني).
من يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ له؟
لا يجوز التقليد لمجتهد أداه اجتهاده إلى الظن بحكم، أو لم يجتهد بالفعل لكنه متمكن من الاجتهاد. ويجوز للعامي ولمن لم يبلغ درجة الاجتهاد في علم أو في باب من العلم لأن القاصر في فن كالعامي فيه. (مذكرة تسهيل الوصول إلى فهم علم الأصول).
قال الله تعالى في كتابه الكريم :{فاتَّقُوا الله مَا اسْتَطعْتُم} [التغابن:10] . فالواجب عدم التقليد، لكن مع العذر يجوز التقليد، لأنه لا واجب مع عجز.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/204): والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، ولا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد .
وقال أيضا كما في مجموع الفتاوى (28/388): ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يكن ذلك لضيق الوقت، أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه. انتهى.
وقال الشنقيطي كما في القول السديد في حقيقة التقليد (ص:77): لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار، فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا فهو في سعة من أمره فيه..، وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقيا، بحث يكون لا قدرة له البتة على غيره، مع عدم التفريط، لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم، أوله قدرة على الفهم قد عاقته عوائق قاهرة عن التعليم، أو هو في أثناء التعليم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد، أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك؛ فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة، لأنه لا مندوحة عنه، أما القادر على التعلم المفرط فيه، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور. انتهى. (أصول الفقه على منهج أهل الحديث؛ زكريا بن غلام قادر الباكستاني).
وللبحث بقية