ضبط الاختلاف.. “أوْحشني ما رأيت من كثْرة الاختلاف فيكم!” رشيد مومن الإدريسي

إنَّ الاختلاف موجودٌ ما بقيت روحٌ في جسد، والطَّالبُ لضدِّه قد كلَّف بما لا يقدرُ عليه أحد، ذلك “لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولا بد أن يختلفوا، فإن هذا من لوازم الطبع البشري، لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك”(1).

لكن لا يعني هذا بحال أن نكون ممن يتعبد بالخلاف والجدال، فإنه مرير حتى قيل على وجه التحذير(2): “إن من الناس من يولع بالخلاف أبدا، حتى إنه يرى أن أفضل الأمور ألا يوافق أحدا، ولا يجامعه على رأي، ولا يواتيه على محبة، ومن كان هذا عادته فإنه لا يبصر الحق، ولا ينصره، ولا يعتقده دينا ومذهبا، إنما يتعصب لرأيه، وينتقم لنفسه، ويسعى في مرضاته..”(3).
فليس -إذن- القصد من قولُنا بضرورة وجود الاختلاف تَسْويغَ وجوده على أيِّ صورةٍ كانت فإن “الخلاف شر”(4).
قال ابن قُتيْبة -رحمه الله-: “قال المأمون لمرتدٍّ إلى النَّصرانية: خبِّرنا عن الشيء الذي أوْحشك من ديننا بعد أُنْسك به، واسْتيحاشك ممَّا كُنت عليه، فإنْ وجدتَّ عندنا دواء دائِك تعالجْت به، وإن أخْطأ بك الشِّفاءُ ونبا عن دائِك الدَّواءُ كُنْتَ قد أعْذرْتَ، ولم ترْجع على نفسك بلائمة، وإن قتلْناك قتلْناك بحكم الشَّريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاسْتبصار والثِّقة، وتعلم أنَّك لم تقصِّر في اجتهاد، ولم تفرِّط في الدُّخول من باب الحزم.
قال المرتد: أوْحشني ما رأيت من كثْرة الاختلاف فيكم!”(5).
هذا مع العلم أن أكثر الاختلاف الواقع بين الناس هو من البغي “بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، ..وكما قد يبغي بعض المستنة(6) إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر الله به..”(7).
وعليه كان من سبل ضبط هذا الاختلاف الواقع ولا بد، الإيضاح والرد ؛ إذ به تتبين الحقائق لكل سائل، وتُدْفع شُبه كل مجادِل، ولولاه لما اصطلح مُتخالفان، ولبقي الحقُّ عليه شيءٌ من ران؛ فمن طرق جادَّته وامتطى دابَّته، لا يخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: إمَّا أن يكون على حقٍّ، فلا يزداد بذلك إلاَّ ثباتاً على حقِّه، واتِّباعاً له لظهور صدقه .
والحالة الثانية: أن يكون على خطأٍ، فبالبيان يتيقَّن خطأَه، وينتقل عن غلطه.
والحالة الثالثة: أن يكون على ارتياب، فلا يقدم من الدين على الشَّك.
وإلى مجموع هذه الأحوال يشير المُزني -رحمه الله- على وجه التنبيه فيما هو من جنس ما نتكلم فيه حيث قال: “لا تعدو المُناظرة إحدى ثلاث: إمَّا تثبيت لما في يديه، أو انتقال من خطأٍ كان عليه، أو ارتيابٍ فلا يقدم من الدِّين على شك”(8).
ولما كان غياب الميزان واهتزاز المعيار، -ولو كان صاحبه على شيء من العلم والعرفان-، يقود إلى البغي والتطفيف، ويوقع في الاعتساف والبعد عن الإنصاف تعين على المتكلم في الاختلافات: العلم بأصول المسائل المتنازع فيها والكليات، ثم التصور التام للوقائع والجزئيات ذلك أنه “من حق البحث والنظر الإضراب عن الكلام في فروع لم تحكم أصولها، والتماس ثمرة لم تغرس شجرتها، وطلب نتيجة لم تعرف مقدماتها”(9).
قال الناظم:
فالأصل ما عليه غيره بني***والفرع ما على سواه ينبني

قال شيخ الإسلام رحمه الله:” لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم”(10).
إذن فلا بد من أمرين اثنين لتقرير مسائل النزاع وتحريرها:
أولهما: العلم بالكليات.
ثانيهما: معرفة كيفية وقوع الجزئيات.
فإن منشأ الغلط عند كثير من الناس: إما من جهة عدم العلم بكليات المسائل، وإما من جهة عدم تصور مورد النزاع تصورا تاما، فيتكلم البعض في أمور لا علم لهم بأصولها، أولا معرفة لديهم بكيفية وقوعها..، وهذا فساد مركب يخرج الإنسان عن حد الاستقامة والاعتدال.
أما عن أهمية ضبط الضوابط والكليات فإنه من الأولويات وعليه كان “شرعنا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل”(11)، و”إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال”(12) فيظهر الغلط والزلل.
ومن ثم كان من المهمات عند الاختلاف تمهيد الأصول والكليات لتحرير الحق، واستدراج المخالف إلى الإذعان والتسليم له حتى يتوصل إلى النتائج المطلوبة، وهذا ما يدخل عند أهل الشأن فيما يسمى بـ”استسلاف المقدمات” كما “هي طريقة المتقدمين من نظار المسلمين..يكون المستدل هو السائل(13) لا المعترض، فيستسلف المقدمات..”(14)، وهي طريقة أرشد إليها كتاب رب البريات(15).
وقد أحسن من قال: “كل كمال في الفرعِ المُتَعلَّم هو من الأصل المعلِّم”(16).
مع التنبه إلى أن النتيجة قد تكون صحيحة أحيانا مع ضعف المقدمات، فيستروح الناس بذلك فيهملون تقرير الكليات، لأن النفوس بطبيعتها تتشوق للنتائج..، فكن على حذر مما يعم بسبب ذلك من البليات!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “قد تكون المقدمات فيها ضعف، لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها..”(17).
أما في خصوص تصور وقوع الجزئيات فهو بدوره من الضروريات لأن “كثيرا من نزاع العقلاء لكونهم لا يتصورون مورد النزاع تصورا بينا”(18)، وكلام علمائنا عن أهمية تحقيق المناط معلوم، بل هو “متفق عليه بين المسلمين، وهو أن ينُصَّ الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي، فينظر ثبوته في آحاد الصور، أو أنواع ذلك العلم”(19).
فكن منتبها إلى هذا الباب فإنه من سمات الجهال أنه “ليس في كلام أحدهم تصوير للصواب، ولا تحرير للجواب”(20).
ومما يعين على اجتناب دربهم ما جادت به قريحة بعض المتقدمين حيث قال: “صور ما شئت في قلبك، وتفكر فيه، ثم قسه إلى ضده، فإنك إذا ميزت بينهما، عرفت الحق من الباطل”(21).
وعليه فصفوة الكلام وجماعه: أن الشأن كل الشأن في الأصول الأثرية، والتصورات النقيَّة، بحيث عند تحققهما لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع على وجه العرض كان اختلافا اجتهاديا تسع له الصدور دون علة ولا مرض.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه، لتفاوت إرادتهم، وأفهامهم، وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة، واحدة والطريق المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر”(22).
——————–
1- الفتاوي 14/150.
2- بل قيل على وجه التنفير: “إذا رأيت إنسانا جبل على الخلاف، إن قلت: لا. قال: نعم، وإن قلت: نعم، قال: لا. فألحقه بعالم الحمير، فإن دأب الحمار إن أدنيته بعد، وإن أبعدته قرب..” قاله أبو بكر الطرطوشي رحمه الله كما في سراج الملوك 259.
3- قاله الخطابي رحمه الله في العزلة 166.
4- قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انظر: صحيح سنن أبي داوود 6/204.
5- عيون الأخبار 2/154.
6- و”أهل السنة يثبتون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يثبتون إلا ما لهم” كما قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله انظر: التحقيق لمرعي الكرمي 147.
7- قاله شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 14/ 487.
8- جامع بيان العلم وفضله 2/108.
9- قاله أبو القاسم عبيد الله رحمه الله انظر: جامع بيان العلم 1/ 785.
10- منهاج السنة 5/83.
11- صيد الخاطر 36.
12- نفسه.
13- ومن ذلك مما يناسب المقام أن يطرح السؤال على المخالف أو المعترض في خصوص اعتقاده في صحة أصل من الأصول التي يرجع إليها الفرع المتنازع فيه، فتأمل.
14- قاله شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على المنطقيين 331.
15- كما بينه شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 19/164.
16- قاله شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح 3/85.
17- درء التعارض 1/ 391.
18- الفتاوي 12/ 57.
19- منهاج السنة 2/ 474.
20- الرد على البكري 1/ 171.
21- نقله الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم 1/285.
22- الصواعق المرسلة 2/ 519.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *