السلفية وسطية أم تطرف..؟ الحلقة الخامسة حمّاد القباج

نماذج لانحرافات (2):

النموذج الثاني: أدعياء الجهاد
من الجماعات التي تنسب خطأ أو تلبيسا إلى السلفية؛ جماعات تبنت العنف والقتل طريقة لتغيير المنكر ومواجهة طغيان الظالمين واستبدادهم؛ أشهرها: “جماعة الهجرة والتكفير” في مصر، والجماعة المقاتلة في الجزائر، و”تنظيم القاعدة” وفروعه وأهمها فروع العراق والحجاز واليمن والمغرب الإسلامي.
الخلفية والأسباب:
ولم يكن ظهور هذه الجماعات منفصلا عن الواقع السياسي والديني للدول الإسلامية؛ فظهور جماعة الهجرة والتكفير كان مرتبطا بأحداث التطبيع المصري (الصهيوني)، وظهور الجماعة المقاتلة في الجزائر كان من آثار انتخابات 1991، وأما تنظيم القاعدة فتبلور على إثر حرب الخليج الثانية عام 1992.
ولم تكن هذه الأحداث سوى سببا مباشرا لظهور تلك الجماعات وأمثالها؛ أما الأسباب الفعلية؛ فترجع -بالأساس- إلى انتشار فكر التكفير الذي يحمل مفهوما محرفا لشعيرة الجهاد، والذي يرجع ظهوره وتفشيه إلى عاملين رئيسيين:
الأول: عقيدة الخوارج الذين كان أول ظهورهم في زمن النبوة، وأول خروجهم في زمن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خروجهم سيستمر ولن ينقطع إلا بخروج الدجال..
الثاني: العدوان الغربي والصليبي على الدول الإسلامية، الذي افتتح باحتلال عسكري غاشم، ولا يزال ينخر في جسد الأمة إلى اليوم بأنواع الغزو العسكري والفكري في ظل هيمنة سياسية تؤطر سيطرة ثقافية واقتصادية خانقة..
فالعنف الذي يوصف بالإرهاب بضاعة صدرتها الدول المهيمنة قبل أن تستوردها، وتسببت فيها ثم أنكرتها؛ وإلا فلم يعد خافيا أن المصالح الاقتصادية ومستلزمات العولمة وأجندة الحرب الصليبية في ثوبها الجديد؛ تحمل تلك الدول على افتعال الأزمات وإذكاء نيران العنف، وممارسة الإرهاب الحقيقي؛ الذي استباح الأرواح والأعراض والمقدرات والخصوصيات والمقدسات بشكل يفوق إرهاب أدعياء الجهاد أضعافا مضاعفة؛ (نذّكر هنا بمجازر فلسطين والشيشان والبوسنة وأفغانستان والعراق وكشمير والفلبين والصومال..).
فلا ندري لم لم يتحرك العالم ضد هذا الإرهاب كما تحرك ضد إرهاب شرذمة مغرر بها لا يظهر إفسادها أمام الإرهاب الذي تمارسه الدولة العبرية بمباركة من الغرب؟!
.. ذانك العاملان إذن؛ أفرزا كُتّابا ودعاة يتبنون عقيدة التكفير، ويدعون إلى ما يرونه جهادا مقدسا..
بالإضافة إلى الدور الذي تقوم به بعض الأجهزة الاستخباراتية التي اخترقت صفوف الجماعات الإسلامية ، وجعلت تحرك الشباب نحو العنف الذي يضمن تحقيق مصالح الإمبريالية التي تؤمن بقاعدة: (الغاية تبرر الوسيلة).
الآثار السيئة لهذا التوجه المنحرف:
وقد كانت لممارسات “أدعياء الجهاد” مفاسد كثيرة؛ منها:
1- القول على الله تعالى بغير علم وتحريف بعض أحكام الدين؛ وعلى رأسها: الجهاد.
2- تنفير الناس من الدين الذي ارتضاه الخالق جل وعلا.
3- استعداء الظالمين والمتربصين الدوائر بالمسلمين.
4- قتل النفوس المعصومة.
5- إتلاف الممتلكات.
.. إن السلفية لا يمكن أن تكون مدخلا لهذا الانحراف الخطير؛ للأسباب التالية:
1 موقف السلف من الخوارج:
وهو موقف قوي لا تساهل فيه؛ ينبني على اعتبار الخوارج كلاب النار، وهم أول من يدخل في أهل الأهواء عند الصحابة..
2 مذهب السلفية في التكفير:
وقد لخصه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : “المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه ..”.
وقال أيضا: “هذا مع أني دائماً -ومن جالسني يعلم ذلك مني- أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى؛ وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية؛ وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية”.
إلى أن قال: “وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: “إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين”! ففعلوا به ذلك فقال الله: “ما حملك على ما فعلت” قال: خشيتك فغفر له”.
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك..”اهـ
3- تصور السلفية لمفهوم الجهاد الشرعي والدعوة إلى الله:
وهو تصور قائم على نصوص القرآن والسنة ومقاصدهما كما بينها فقهاء الإسلام وعلى رأسهم الأئمة الأربعة؛ وقد شرحت هذا في كتابي “السلفية في المغرب ..”، وسأخصه بمقالة مفردة في هذه السلسلة إن شاء الله.
وفي الحديث: “إسلام رجل واحد أحب إلي من قتل ألف كافر” ، وهي قاعدة عملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تؤكد بأن الدعوة في مقاصدها ووسائلها رحمة ورفق وليست عنفا ولا مصدر ترويع وإرهاب..

4 حقيقة السلفية:
سبق أن وضحنا بأن السلفية هي المنهاج الصحيح لفهم الإسلام وتطبيق أحكامه.
وهذا يعني بالضرورة أنها لا يمكن أن تكون سببا للفساد والإفساد؛ وهذا يُسلّم به من يؤمن بأن شريعة الإسلام ربانية المصدر، أما من يجحد ذلك فهذا يعتقد بأن الإسلام هو الذي يشرع تلك المنكرات، ومن هؤلاء من يجهر بعقيدته، ومنهم من يخفيها ويظهر احترام الإسلام، ثم يحاربه من خلال محاربة السلفية..
وبما تقدم نعلم بطلان النظرية التي تزعم بأن السلفية بريد مذاهب التكفير والتفجير والخروج على المجتمع؛ وهو ما عبر عنه الباحث عبد الحكيم أبو اللوز ملخصا تصوره عن الحركات السلفية في المغرب بقوله: (الانتقال سهل وميسور من السلفية التقليدية والعلمية إلى السلفية الجهادية)!!
وهو طرح غير واقعي يتبناه العلمانيون الذين لا يخفون موقفهم الطبيعي من السلفية باعتبارها -في تصورهم- من روافد التخلف والانحطاط والانغلاق والتطرف، وبصفتها تمثل عائقا أمام الحداثة الإباحية التحررية من الدين وقيوده؛ وفي هذا السياق نفهم الربط الذي ربطه محمد الطوزي في تقديمه لبحث أبو اللوز بين السلفية في المغرب وتصور الخوارج لمفهوم الجهاد في الإسلام..
فالحقائق العلمية والواقعية تستلزم التفريق بين أمرين:
1- كون السلفية بريدا إلى مذاهب التكفير
2- انحراف المنتسب إلى السلفية نحو تلك المذاهب
فالأول ممتنع؛ لأن السلفية ترفض وتنكر فكر التكفير جملة وتفصيلا، ولا تقبل ما يقوم عليه من جهالات وشبهات.
أما انحراف المنتسب فوارد؛ إذ لا عصمة لأحد كما تقدم، والواقع يشهد أنه نادر؛ فكيف يوصف بأنه “سهل ميسور”؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *