من الوسائل المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى أحكام الدين القدوة الصالحة, فإن هذه الأخيرة يرى فيها الناس ما يدعوا إليه من الخير واقعا معاشا.. القول فيه صنو العمل.
ولأجله يكون مردودها أوقع وأقوى في النفوس, فإن “الاقتداء بالأحوال والأعمال أبلغ من الإقتداء بالأقوال” الفتاوى السعدية.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرا على سماع الحديث, وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي, ويبني قواعد الأدب في نفسي, وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي فكان كثير الصمت, شديد التحري فيما يقول, متقنا محققا.
وكان كثير الصوم والصمت, فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول” صيد الخاطر.
فما أحوجنا إذن إلى القدوة الصالحة في زمن دنت فيه الهمم وفقدت فيه الأسوة الحسنة.
قال تعالى: “أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ”.
قال القرطبي رحمه الله: “قوله (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ): الاقتداء طلب موافقة الغير في فعل, فقيل المعنى: اصبر كما صبروا” جامع أحكام القرآن 7/34.
وقال تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً”.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أسوتنا وقدوتنا, ولما كان العلماء هم ورثته فإنهم أولى الناس بعده بأن يكونوا قدوة صالحة للناس, ومن ثمة يتعين عليهم “الاتصاف بما يدعوا إليه العلم من الأخلاق والأعمال والتعليم, فهم أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة والتخلي من كل خلق رذيل, وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم ولأنهم قدوة للناس, والناس مجبولون على الاقتداء بعلمائهم شاؤوا أم أبوا في كثير من أمورهم” الفتاوى السعدية.
ففي السير للذهبي 4/231 أن سعيد بن المسيب رحمه الله دعي إلى البيعة للوليد وسليمان بن عبد الملك بعد أبيهما, قال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيعتين, فقيل له أدخل واخرج من الباب الآخر, قال: والله لا, يقتدي بي أحد من الناس، فجلد مائة جلدة.
وعند بيان أهل العلم لما تعظم به الصغائر من الذنوب وتصير كبائر ذكروا من ذلك, إذا كان المذنب عالما يقتدى به. انظر مختصر مفتاح القاصدين لابن قدامة رحمه الله وغيره.
قال ابن قدامة رحمه الله بعد التنصيص على ذلك: “فعلى العالم وظيفتان, إحداهما: ترك الذنب, والثانية: إخفاؤه إذا أتاه, وكما تتضاعف أوزار العلماء إذا اتـُّبِعوا على الذنوب، كذلك تتضاعف حسناتهم إذا اتـُّبعوا على الخير” مختصر منهاج القاصدين 191.
بل إن العلماء الصادقين لما علموا أنهم محل نظر من الناس واقتداء تركوا كثيرا مما ليس به بأس, وتحفظوا عن كثير من المباحات.
قال الأوزاعي رحمه الله: “كنا قبل اليوم نضحك ونلعب أما إذا صرنا أئمة يـُقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ” البداية والنهاية.
ولمَّا هم إمام مصر الليث بن سعد بفعل مفضول ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري: “لا تفعل فإنك إمام منظور إليك” تهذيب التهذيب.
وعن إبراهيم بن أدهم أن أصحابه كانوا يوما يتمازحون فدق رجل الباب فأمرهم بالسكوت والسكون, فقالوا: تعلمنا الرياء؟! فقال: إني أكره أن يعصى الله فيكم.
قال ابن الجوزي رحمه الله معلقا: “وإنما خاف قول الجهلة: انظروا إلى هؤلاء الزهاد كيف يفعلون!
وذلك أن العوام لا يحتملون مثل هذا للمتعبدين” تلبيس إبليس 200 منتقاه.
وأخيرا نقول: إذا “أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟
وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟
فإن كان الحاكم عليه هو الهوى, وهو من أهل الغفلة, كان أمره فرطا” الوابل الصيب 81 صحيحه.