من السِّمات البارزة التي تُمَيِّز أهل السنة وأتباع منهج السلف عن غيرهم؛ محبة هذه الأمة والحرص على ما يصلحها ويهديها وينجيها، شعار لا يكفي؛ وعنوان وحده لا يفي؛ إلا إذا صدقه الواقع العملي، ولعل من أبرز سمات ومظاهر تحلي أهل السنة وأتباع السلف به ما يلي:
1- بذل النصيحة
لقد أولى الإسلام النصيحة مكانة خاصة حتى كانت تُعقد عليها البيعة فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) متفق عليه.
ونصيحة الأمة دليل على الاهتمام بها محبتها والحرص على ما ينفعها، وكمال ذلك أن لا يبالي الناصح بما يلاقيه من المنصوح…، فلا تجده إلا صابرا ثابتا، لا يعيقه سب منصوح ولا شتمه ولا احتقاره ولا ازدراءه، لأن غايته مرضاة الله أولا، ونفع أخيه ثانيا.
2- الرفق واللين في الدعوة إلى الله
وعلى الداعية إلى الله تعالى السالك إليه المتبع لسلف هذه الأمة، الحريص على نجاة خَلَفها، أن يكون رفيقا بها؛ فلقد أمر الله تعالى نبييه موسى وهارون عليهما السلام بإلانة الكلام لفرعون وذلك أدعى لقبول كلامهما فقال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43-44].
قال القرطبي في الجامع: “فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ بِأَنْ يَقُول لِفِرْعَوْن قَوْلًا لَيِّنًا؛ فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِي بِذَلِكَ فِي خِطَابه؛ وَأَمْره بِالْمَعْرُوفِ فِي كَلَامه”
وَعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) رواه مسلم.
ولما “جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ! مَهْ!
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ.
فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْه. متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ) متفق عليه.
3- تحمل الأذى في سبيل دعوة الناس
على من اختار سلوك سبيل دعوة سلف الأمة أن يعلم أنه سبيل ليس مفروشا بالورود والرياحين، وإنما هو طريق محفوف بالمكاره والمَشَاقِّ والمخاطر، ومن ذلك إيذاء الناس، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا في تحمل أذى الناس، والصبر عليهم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ). متفق عليه.
وعن عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) متفق عليه
فما أعظم حلمه وصبره صلى الله عليه وسلم!
4- تفريغ القلب من الحقد على المسلمين
فالداعية الصادق سليم الصدر من الحقد والحنق على عموم المسلمين لحرصه على نجاتهم وكرهه لهلاكهم، ولهذا تجده يتوجع أسفا، ويبكي كمدا على حال فردٍ من أفراد هذه الأمة ضَلَّ الطريق وأخطأ السبيل، فعصى الرب الجليل سبحانه وتعالى ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة، حيث لقي من قومه ما لقي ومع ذلك قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:(كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) متفق عليه.
فأين هذا الخلق الإسلامي العظيم ممن طغى عليه الغلو والإفراط فتأثر بالخوارج المارقين، فعوض أن يدعو للأمة بالهداية والصلاح تجده يدعو عليها بالهلاك، وعوض أن يسعى لتخليصها وانتشالها وإنقاذها؛ تجده يسعى لتقتيلها وترويعها وتنفيرها وصدها عن سبيل الله، مخالفا السنة الإلهية والطريقة النبوية المحمدية وما أعظم موقف النبي عليه الصلاة والسلام حين قيل له: ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَقَالَ:(إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم.