ضعف النظر فيما فهمه الدكتور سعد الدين العثماني من كلام الإمام القرافي الحلقة الأولى– رشيد مومن الإدريسي

“الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” الماوردي

“تحقيق المناط” من المهمات للخلوص إلى التقعيد المنضبط، وضبط الضوابط، وعدم مراعاته خلل في المسار، ومن لم يعتبره لا يأمن العثار، ومن ذلك ما فهمه الدكتور العثماني من كلام الإمام القرافي رحمه الله الذي نص فيه على أن “تصرف النبي عليه الصلاة والسلام بالإمامة وصف زائد على النبوة والرسالة، والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق..” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 93 بتصرف يسير.

مع أن كلام الإمام القرافي في الموضوع لا يدل بعد النظر الدقيق وجمع أطرافه مع حسن التنسيق على ما قرره الدكتور العثماني من أن “الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية(1)”!!
فالقرافي رحمه الله لم يقصد بكون تصرفه عليه الصلاة والسلام بالإمامة وصف زائد على النبوة والرسالة أنها شيء مستقل، وإنما غرضه تقرير أن التصرف بالإمامة يتميز عن عموم النبوة والرسالة بالتنفيذ للحكم الشرعي دون قضاء ولا إبرام ولا إمضاء، مع أن التصرف بالإمامة شرعا جزء من التصرف بالنبوة والرسالة، وصورة ذلك أن هذا الأخير تصرف بالتبليغ العام(2)، والتصرف بالإمامة لا يخرج عن كونه من طرق التبليغ الخاص، فتأمل.
قال الإمام القرافي رحمه الله في فروقه 1/206: “اعلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الإمامُ الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم، فهو إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته” فتأمل كيف أرجع القرافي سائر المناصب الدينية إلى مقام الرسالة، ومن ذلك منصب الإمامة.
نعم، كلام الإمام القرافي المالكي رحمه الله فيه نوع غموض(3)، ولذا علق عليه الإمام أبو القاسم المعروف بابن الشاط المالكي رحمه الله في حاشيته على الفروق(4) المسماة بـ”إدرار الشروق على أنواء الفروق” بقوله: “قلت: لم يجود التعريف بهذه المسائل ولا أوضحها كل الإيضاح، والقول الذي يوضحها هُوَ أَنَّ المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول، إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة، وإلا هو المفتي وتصرفه هو الفتوى. وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه، فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء” هامش كتاب الفروق 1/206-207.
وعليه فتنقسم التصرفات في الحكم الشرعي إلى قسمين:
أولا: تصرفات تُعِّرف الحكم الشرعي وهي من اختصاص الرسول عليه الصلاة والسلام أصالة والمفتي من بعده تبعا.
ثانيا: تصرفات لتنفيذ الحكم الشرعي وهي إما قضائية إذا قامت على القضاء والإبرام والإمضاء، وإما تصرفات بالإمامة إذا لم تقم على ذلك.
فهذا هو خلاصة ما قصده الإمام القرافي رحمه الله من كلامه ووضحه الإمام ابن الشاط رحمه الله معلقا عليه، ولذا فالتصرف بالإمامة هو: “تصرف في الحكم الشرعي بتنفيذه دون قضاء ولا إبرام ولا إمضاء، سواء تعلق الأمر بالأمور الدينية كالأمر بالصلاة ومعاقبة تاركها(5)، والأمر بالزكاة ومقاتلة مانعيها(6) ..أو أمور دنيوية كالمصالح العامة”، أي: أن مهمة الإمام حفظ الدين وسياسة الدنيا به فتأمل.
قال الإمام الماوردي رحمه الله: “الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(7)” الأحكام السلطانية 1/ 3.
وبهذا يظهر بطلان ما ذهب إليه الدكتور العثماني من أن “أحكام السياسة تدخل ضمن ما هو مطلوب لمصالح الدنيا، فهي ليست دينا بالمعنى الأول(8)، أي ليست وحيا ولا أحكاما مطلقة لكنها دين بالمعنى الثاني(8) أي خاضعة لرؤية الدين العامة للإنسان وللمجتمع، وملتزمة بمبادئه وأخلاقه وإطاره العام.
إن مقام رئاسة الدولة (أو الإمامة) إذن مقام دنيوي..”!!
فالإمامة كما يقرر أهل العلم “نيابة عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماما” المقدمة لابن خلدون رحمه الله 202، وانظر الأحكام السلطانية للماوردي رحمه الله 4-5، ومجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 28/241 في آخرين.
وهذا الاصطلاح المعروف عند أهل العلم للإمامة في كتب الفقه والسياسة الشرعية خلاف ما سطره الدكتور العثماني في خصوص مفهومها، ولا يصح أن يتذرع بأن ما ذهب إليه مبني على اصطلاح خاص قد وضحه مع أنه لم يحكمه هو بدوره!!
ذلك لأن الأصل هو استعمال المصطلحات في علومها مع الحفاظ على معانيها فيه، كما قال العلامة طاهر الجزائري رحمه الله: “ذكر المحققون أنه ينبغي لمن تكلم في فن من الفنون أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه، مستعملا لها في معانيها المعروفة عند أربابه، ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام” توجيه النظر 1/78.
ومع التنزل في قبول الاصطلاحات الخاصة في غير بابها فلا يجوز أن تخالف حقائقها ما هو مقرر في الشريعة الغراء ومعلوم عند العلماء.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام” إعلام الموقعين 3/315.
وللبحث بقية..
……………………………………………………………..
1. ينظر كلامه هذا وغيره مما سيأتي في مقاله الخاص بعلاقة الديني بالسياسي بجريدة التجديد العدد 2256.
2. فالرسالة أمر الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالتبليغ العام، أي: النقل عن الحق للخلق.
3. والظاهر أن الإمام رحمه الله لم تسعفه العبارة لبيان المقصود وهو أمر يعرض أحيانا في كلام أهل العلم.
4. “ينبغي.. الإشادة بالعمل القيم الذي اضطلع به أبو القاسم ابن الشاط في تتبع قواعد القرافي وتفريعاتها نقدا وتمحيصا، حتى أصبح متقررا أنه لا غنى عن قراءة الكتابين معا الأصل والنقد” العقل الفقهي معالم وضوابط 27.
5. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره، ويعاقب التارك بإجماع المسلمين..” الفتاوي 28/ 307.
6. كما فعل الصديق رضي الله عنه في بداية خلافته.
7. لطيفة : في “ثمار القلوب” للثعالبي: كان أبو الفتح البستي يستحسن قولي في “كتاب المبهج”: “الملك خلافة عن الله في عباده وبلاده، ولن تستقيم خلافته مع مخالفته” نقلا عن نظام الحكومة النبوية للكتاني 98.
8. فمصطلح “الدين” عنده عام وخاص وهذا الأخير معناه الوحي والحكم المطلق أي ما كان مطلوبا لمصالح الآخرة، والدين بالمعنى العام معناه: أن الأحكام السياسية مع أنها ليست دينا خاصا وإنما دنيوية فهي خاضعة للأسس الأخلاقية في الإسلام من عدل وحرية وشفافية.. أي أنها مطلوبة لمصالح الدنيا ..وهذا هو وجه جعلها دينا بالمفهوم العام!
وقد سبق في المقال الأول بيان عدم تصور هذا المطروح لا شرعا ولا واقعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *