أسباب تراجع أثر الفتوى في المجتمعات الإسلامية

رغم العودة الكبيرة إلى التدين التي تشهدها المجتمعات الإسلامية عامة؛ ورغم المكانة السامية التي أصبح يحظى بها علماء ودعاة الكتاب والسنة عبر العالم؛ إلا أن كل ذلك لا يصل إلى ما كانت عليه بلاد الإسلام فيما مضى؛ حيث كان الناس كلهم يقيمون وزنا كبيرا لعلمائهم، وكان لفتوى العالم وقعا بارزا على حياة الناس؛ ولا شك أن لضياع هيبة الفتوى من النفوس أسبابا متعددة، نذكر منها:

محاربة الاحتلال النصراني العَلماني للشريعة الإسلامية: حرص المحتل النصراني العلماني منذ بداية تدخله في شؤون دولة الإسلام على خلخلة المفاهيم وتحريف الحقائق، وضِمن خطته في محاربة الشريعة الإسلامية، عمل على محاربتها عبر إنشاء محاكم خاصة برعاياه، ولما استولى على زمام الأمور بدأ بالتضييق على القضاة الشرعيين، وسن القوانين المخالفة لشريعة الإسلام، بل أحدث قضاء خاصا بالمناطق الأمازيغية بحجة إصلاح القضاء بهذه المناطق..
جاء في كتاب الحسبة الذي أمر بتصنيفه الملك الحسن الثاني رحمه الله (ص:37): ” وعلى الجملة فإن المحتسب لم يبق له -في عهد الامتيازات والوصاية الأجنبية- دور مهم في النوازل التي كان يمارس الحكم فيها، وصار دوره قاصرا على إعطاء بعض القضايا الحِرفية قبل الفصل فيها من قبل المحاكم المختصة، إن اقتضى الحال استشارته”.
ضياع الهيبة والنفوذ للشيوخ من نفوس الناس: وهذا العامل يعد في حد ذاته سببا ونتيجة في الوقت نفسه. بمعنى أن ضياع الهيبة والنفوذ التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس الناس قد أدى إلى عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن هؤلاء الشيوخ. كما أن عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن الشيوخ قد زاد من ضعف مكانة وتأثير الشيوخ في نفوس الناس. ويحكي لنا التاريخ عن المكانة السامقة التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس العامة. ونذكر في هذا الصدد على سبيل المثال قصة العز بن عبد السلام.
فقد سار الشيخ إلى مصر فأكرمه ملكها، وولاه الخطابة والقضاء. وكان الحكم في مصر في ذلك الوقت للمماليك، فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشرع عبيدا، لم يتحرروا هم فضلا عن أن يحكموا الأحرار. فأعلن بوصفه القاضي، أنهم سيباعون بالمزاد العلني. وكان نائب السلطنة من المماليك، الذين حكم الشيخ ببيعهم!! وحسبوه يهزل، فإذا هو جاد. فشكوه إلى السلطان، فنهاه فلم ينته. فقال له السلطان كلمة فيها غلظة، فما كان من الشيخ إلا أن حمل أمتعته على حمار، وأركب أهله على حمار آخر. وخرج من مصر. فماذا حدث؟!! لقد صنع بفعلته هذه العجائب!! لقد خرج أهل مصر جميعا، بالضجيج والعويل، يسيرون خلفه. وارتجف البلد، وزلزلت مصر!! وأسرعوا إلى السلطان يقولون له: تدارك ملكك لئلا يذهب بذهاب الشيخ!! فلحقه فأرجعه وأجابه إلى طلبه.
تضارب فتاوى المفتين: فتجد للموضوع الواحد أكثر من فتوى متعارضة، مما أضاع أثر الفتوى من النفوس. فقد يسأل أحد الأشخاص عن شيء ما، فيُفتي فيه برأي معين. فإذا ما بدأ في العمل به عن اقتناع، يفاجأ بعد حين بمن يتعجب من هذا العمل، بل ويأتيه برأي آخر قد يكون مضادا للرأي الذي بدأ في العمل به. ولذلك نجد هذا الشخص يتهاون بعد ذلك في السؤال عن أي شيء، أو يعمل بأيسر الآراء دون مراجعة أيٍ من المفتين.
خروج التقدم الإنتاجي والتقني من يد المسلمين: كان المسلمون أصحاب حضارة، وكان التقدم الإنتاجي في أيديهم. فلم يكن العرب يقومون بإنتاج أي شيء إلا لما يوافق الشرع. ثم حدثت الانتكاسة التي للأسف خرج بموجبها المسلمون من الحضارة ومن التاريخ!! وانتقلت الحضارة إلى يد الغرب، فأصبح الغرب ينتج ما هو حلال وما هو حرام، وأصبح علينا ملاحقة هذا الإنتاج المادي بالفتاوى. وبالطبع ضاعت هيبة الفتوى أمام بريق المنتج الجديد وإغرائه.
التصدي للفتوى ممن ليس أهلا لها: فإذا كان المريض بالقلب يتخير أفضل الأطباء في هذا التخصص، ولا يلجأ لتخصص آخر كالمخ مثلا، فلماذا يقول بالفتوى كل من هب ودب؟ وللأسف فقد أصبح للإعلام من صحافة وقنوات فضائية سطوة كبيرة في توجيه رأي الناس إلى ما تريده، بغض النظر عن مراد الشرع. كما أصبح لبعض الإعلاميين فتاوى كثيرة في موضوعات شتى، بغض النظر عن خلفيتهم الشرعية!!
الهزيمة النفسية للمفتين: وهذا عامل في غاية الخطورة. فمعظم المفتين أمام ضغط العوامل السياسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وكثرة دعاوى العلمانيين والليبراليين المغرضة وطعونهم في الإسلام، ومحاولة منهم لكي يبرروا للناس الواقع الذي يعيشون فيه، تجدهم أمام هذه الضغوط يتهاونون في أمر الدين، ويحاولون إضفاء صفات ومعاملات وأحوال جديدة عليه لكي يبرهنوا على أنه دين متطور ومناسب لهذا العصر. (الفتوى بين التشدد والتساهل؛ محمد يوسف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *