كانت هناك مساعي ضخمة جبارة تقعقع من عالم ما وراء البحار، واليوم باتت عربدتها تنبعث شرارة موقدها من داخل البيت الإسلامي بحطب مَحلِّيِّ الجدع، وعيدان ثقاب وطنية الصنع، تبدل قصارى الجهد، وتستفرغ سقف الوسع لخندقة الدين في دائرة الاعتقاد؛ الذي لا يجاوز الوجدان والعاطفة. وإذا ما تم له التجلي فهو لا يعدو أن يكون شعائر يمارسها الفرد فذا كان أو مع الجماعة بشكل منعزل ومنفك التأثير في الحياة الواقعية.
إن هذه المساعي اليوم نراها قد أفلحت إلى حد ما في الحيلولة لدى بعض الناس بين هذا الدين العظيم وماهية طبيعته، التي تجعل الشعائر الوجدانية أصولا تنبني عليها لوازم ولوج الدين بشريعته إلى ميادين تأطير الحياة العامة، وضبطها بعقال الشرع، وربطها بتوجيهاته في مجالات الأخلاق وقيم القوامة، ولازالت دارة ضوء هذا التجلي تنحسر وتنحسر حتى قصف آخر معقل من معاقل هيمنة الشريعة على واقع المسلمين وحياتهم المعاشة، ولا أدل على هذا القصف تواتر الدعوات العلمانية التي تنادي بالصوت والصورة والمسطور إلى إلغاء بقايا الملامح الإسلامية من ركن قانون الأحوال الشخصية، وضرب منظومة مؤسسة الزواج وحصانة الأسرة وفرضية الميراث، وتعويض هذا الشرع الرباني الحنيف بتصورات بشرية غريبة ومستغربة؛ وافدة على بلادنا من وحي إيديولوجيات قد تكون مضامينها متخاصمة الفكر متضادة الفلسفة، لكن يوحدها على الخصومة؛ الالتقاء المنشود الذي تحركه الفوبيا اتجاه الإسلام، وتؤلف فيما بينه غاية ضرب عرى الدين واجتثاث بقاياه من نفوس الموحدين، وتنحيته من الوجود إن هي استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأنى لها أبدا لتحظى بهذا المأمول والرجاء المخبول، وعقيدتنا تحملنا باليقين علما وعينا وحقا أن نستشرف هزيمة هذه الجهود المبذولة، وأنها سوف تبوء بالخيبة والهزيمة.
ولعلنا اليوم بالذوق والحال نترصد بوادر هذا الفشل، ولا يقف أمر هذا الترصد عند هذه النقطة، بل يتعداها إلى أن المناوئين قد حصل لهم القطع المعرفي على أن هذا الدين عائد إلى متاريسه التي سطعت على ثخومها شمس نفوذه المبارك، بل تبين لهم أن هذا الدين هو منهج ارتضاه الله لتدور في فلك كونيته حياة البشرية جمعاء، وتنضوي مطالبها في إطاره المتجدد الفضفاض؛ انضواء التزام لا نسخ له، وإبرام عقد لا فسخ له، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومع يقينها فهي على عناد تناور، وعلى طمع تزاور، لا لإبادتنا وتنحية الدين بالكلية، بل لتعطيل ما هو آت وتحريف سبيله، واستنزاف قوة الإعداد له ولو إلى حين، وهي غير ملومة بالنظر إلى عقيدتها ومشروع وجودها، ولكن اللوم على الذين خرجوا من أرحام الموحدات؛ وكان استهلالهم الأول بين يدي الآذان والإقامة والحلق والنسيكة، لكنهم استدركوا على رضاع الحولين الكاملين برضاع على أشد وأكبر من لبان الحداثة والاستغراب، فعادوا لا يؤمنون بتماشي الإسلام مع ظروف المدنية الحديثة، ومع هذا صار مأمولهم الأول؛ العمل على تذويب بقايا الانتساب في حوجلة المروق والاغتصاب، وتذليل حياة المسلمين بين مخالب الإباحية، وإغراق النفوس الطاهرة في مستنقع الدناءة.
وهل هناك صورة على صحة ما نشير إليه أفضل من نقل ما كتب من أفن وعفن على الوزرة اللاصقة، التي خرجت ترفل في زينتها أم جميل؛ رئيسة جمعية “مالي” متزعمة المأدبة الرمضانية النهارية بمدينة المحمدية في الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها مراهقة 20 فبراير؛ عبارة نوثر أن نكتبها برسمها اللاتيني:
I DON’T NEED SEX GOVERMENT FUCKS ME EVERY DAY.
حتى لا ينقض جدار الحياء بيننا وبين كل من نكن له ذرة احترام وتقدير، فإن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء، وقد كان مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”، مائلين عن حبر معناها فإنه مما لا يعنينا، وتركه قد يحسن به إسلامنا، مكتفين بوصف هذه العبارة بأنها نضح لقلوب تسفلت أحاسيسها في النقيصة، وغرقت ضخاتها في دماء الرذيلة، وتفلتت جوارحها تبعا من فضيلة ترك المحرم..
وإذا كنا نتورع بعد الرسم أن نخوض في المعنى والفهم، فهذا لا يمنع أن نستخلص العبرة، وأن نقرأ ما وراء السطر، ونستشرف مخفيات ما وراء الأكمة، سيما وأن حالة الانفكاك بين الحال والمقال غير حاصلة في الجملة؛ مع الأخلاط النكدة التي تسمت بدعتها بجمعية “شباب 20 فبراير”، والذين خرجوا باسم شعب المغرب المسلم بغير وكالة ولا تفويض، لا ليمثلوه على الحق والصدق، بل كانت هجرتهم إلى ما هاجروا إليه، وليس مراد هجرتهم بخفي بالنظر إلى التركيبة النخبوية، وربط وجوهها ورسومها وجمعياتها المدنية المدخونة المنشأ والمقصد بمواقفها المتخذة سلفا، وتباكيها حماية ورعاية ووقاية لعبدة الشيطان، وقضية الشواذ، ومسلسل أعراس المثليين في بعض المدن المغربية، ودفاعها المستميت لتركيع المغرب المسلم لبنود المواثيق الدولية الكافلة للحقوق والحريات الباغية، التي همّها تعهير الحياة، وتفسيق المعاملات، والإتيان على كل خلق وقيد يعقل سلوك الفرد بقيود الشرع، ويحميه من أي هبوط إلى دركات حياة الأنعام والبهيمة.
فإذا ما تم هذا الانسلاخ، وحصل الإخلاد للشهوات، ودخل المجتمع في شقوة العذاب والمعانات، وانفضح زيف الدعوات التي كان مبناها في الظاهر على جوعة البطن وأزمة الخبز ومطالبه الاجتماعية، بينما ظل وجهها البشع المتواري يحوي مطالب إسقاط الدين وتقويض دور الإمارة الإسلامية، التي لا تزال تنكسر على صفوانها كومات الحمأ المسنون، وتقف عند حدود أعرافها الأضداد المارقة والأحقاد العلمانية الفارقة، لتعود وهي تجر أذيال الخيبة، بينما تبقى البيعة الشرعية ميثاق ترابط بين الراعي ورعيته؛ ميثاق يستمد قوته ويستعيد صولته بحسب الحيز العلمي والعملي المتاح أمام الشريعة باعتبارها سيفا زاجرا ينفذ في محيط الواقع؛ ليضبط الحركة، ويهيمن على سائر الأنشطة، ويتصدى للدعاوي الكاذبة، التي مفادها أن احتجاج المراهقة الشبابية قادر على أن يحل كبديل حداثي فاعل عوضا عن دولة الإسلام وخلافته المسلمة، وأن يقف بسراويله الحاسرة، وكلماته الكاسرة، ورهاناته الخاسرة، أمام كيد الكائدين، وتربص المتربصين من صناع إيديولوجية “الاستعمار” الجديد، الذي عنوانه احتضان ثورة الشباب الثائر، ومضمونه على الحقيقة تحويل مجرى الثورة في المسعى الذي يخدم الامبريالية العالمية، فيصب في جيبها ثروات الذهب الأصفر والأسود، ويثري خزينتها بوابل الأرصدة المسروقة سلفا والمجمدة خلفا، ويبني قواعد انبطاح جديدة تتماشى والأعراف الشبابية البديلة، فاللهم سلّم سلّم.