إن فكرة أفلوطين في الوجود عامة تجمع بين مزيج من آراء السابقين في إطار أفلاطون، ويتميز بالجمع بين الديانات الشرقية وبين الفلسفة اليونانية بمذاهبها ونظرياتها كما ذكرنا من قبل.
فالوجود في نظر أفلوطين يتكون من أربعة جواهر أولية مرتبة ترتيبًـا تنازليـًا على النحو التالي:
1 ـ الواحد. 2 ـ العقل. 3 ـ النفس. 4 ـ المادة.
المرتبة الأولى ـ الواحد أو الوجود الأول:
وهو لا يشبه شيئًا من الموجودات، يتعذر وصفه بصفات إيجابية، ولكن يمكـن وصفه بصفات سلبية، كأن يقال :إنه ليس حركة، وليس في مكان أو زمان وليس صـفة، وليس ذاتًا، وغير ذلك من صفات السلوب.
وهو واحد من جميع الوجوه؛ واحد فـي التصور الذهني، وواحد في الواقع، لا توجد فيه كثرة بأي اعتبار، والتركيب لا يتطـرق إليه بأي وجه من الوجوه، لذا فهو بسيط كل البساطة وهو واحد في الذات وحدة مطلقـة.
ولكونه واحد فلا يقال عنه:عقل ولا معقول، لأننا إذ وصفناه عقلًا يجب أن نتصور فـي دائرته ومرتبته معقولًا معه، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا بأنه عرض لأنهما من الأمور النسبية.
وقد وصف أفلوطين الأول بأنه خير، لا على أن معنى الخيرية وصف قائم به، بل على معنى أن الخير هو عين ذاته، وذاته وخيريته شيء واحد.
ومبالغة أفلوطين في نفي الكثرة عن الأول جعلته يلتزم القول بأن صدور العالم عنه يكون بالطبع لا بالإرادة، لأن إضافة الإرادة له في نشأة العالم تستلزم مرادًا، وهذا يقتضي تكثرًا في التصور على الأقل والفرض أنه واحد من كل وجه، إنه لا يتعين ولا يتنوع لبساطته.
ولما كان هو مبدأ الوجود كله؛ فإنه يحوي كـل ما فيه من أشياء بالقوة، دون أن يصير هو واحدًا متعينًا، إلا أنه فياض، وعن فيضه يوجد العقل.
ويعتبر أفلوطين ممن قال بنظرية الفيض وهي عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد؛ يقول: “ففي القمة نجد الواحد وعنه يفيض العقل، وعن العقل تفيض النفس، وكل مرتبة من هذه المراتب تحتوي جميع الكائنات؛ فالواحد يحوي كل شيء من دون تمييز، والعقل يحوي جميع الكائنات ولكنها متميزة متضامنة، أما في النفس فإن هذه الكائنات تتميز حتى إذا ما وصلت إلى العالم المحسوس انفصلت وانتشرت.”
ويقول أيضًا: (ينبغي أن نعلم أن الأشياء الطبيعية متعلق بعضها ببعض، فإذا فسد بعضها صار إلى صاحبه علو إلى أن يأتي الأجرام السماوية، ثم النفس، ثم العقل، فالأشياء كلها ثابتة في العقل، والعقل ثابت بالعلة الأولى، والعلة الأولى بدء لجميع الأشياء ومنتهاها).
فالواحد الأول الله ليس خالقًا ولا صانعًا عند أفلوطين، لكن الموجودات تفيض عنه دون أن يعلمها أو يعنى بها، والعالم المادي صادر عن النفس الكلية، وهي علة نظامه وحركاته، وغاية الإنسان الفناء في الله على ما يقرب من عقيدة الهنود.
المرتبة الثانية ـ العقل:
أما عالم العقل؛ فهو صورة هذه الوحدة بعين مرآة مشاهدة الذات، وقد صدر العقل مباشرة عن الأول، وهو في المرتبة الثانية بعده، ووحدة الأول مـن كل وجه تتكثَّر في العقل الآن بالاعتبار، لأن مقتضى كونه عقـلا يسـتلزم معقـولا، أي يستلزم موضوعًا للتعقل، فهنا اثنينية في التصور حدثت بعد “وحدة” مطلقة كانت للأول.
وقد صـدر العقـل عن الأول لا في وقت وزمن، وصدوره عنه مباشرة لا يقلِّل مـن جوهـره ولا يسـبِّب له ضعفًا ولا نقصًا، وصدوره عـن الأول بـالطبع لا بـالإرادة والاختيار، ولما يوجد بينه وبين الواحد من شبه فإن قوته تفيض شيئًا غيـره، وهـو النفس الكلية.
وعالم العقل أيضًا يتَّسم بالأبدية تماثلاُ بمصدره، وهو محور الطاقة الخلاقة، وهو كامل بلطافته، ولذلك سُمِّي عالم الروح، لكن وحدته تبقى ثنائية بالنسبة لوحدة الواحد.
لكنه يعي الأشياء جميعاً دفعة واحدة كشيء واحد تمامًا كما يُقال في الروح بأنها متواجدة في كل زمان ومكان في آن معًا.