جاء في كتاب كولييز حمايتنا الصفحة 258-268: “عند إمضاء عقد الحماية وجدنا أنفسنا أمام حالة واقعية، وجدنا أمامنا بفاس جامعة القرويين التي زودت دول الإسلام الإفريقية طول عشر قرون بقادة الفكر؛ والتي لا يزال فيها سبعمائة طالب مغربي يتخصصون في القضاء والعدالة، كما وجدنا أيضا في الحواضر والبوادي عددا كبيرا من الكتاتيب القرآنية يمدها السلطان والأوقاف أو مطلق الناس بما تحتاج إليه.
نعم وجدنا أنفسنا أمام مجموعة زاهرة بديعة من المدارس كبرى وصغرى، تعمل تحت ظلال الأحياء الحضرية أو تحت خيام المداشر”.
هكذا كان التعليم في المغرب مجهزا بنظام خاص ينشر الثقافة العربية الوطنية، ويضمن تكوين الموظفين الضروريين لإدارة البلاد، ولم يكن هذا التعليم الواسع الانتشار يتطلب سوى مجهود قليل لتجديده، كما كانت الإدارة المغربية نفسها لا تحتاج إلا إلى تحوير يجعلها مطابقة لواقع العصر، لكن سياسة الاحتلال خططت لمحاربة التعليم الوطني بشكل عنيف وقاس، فقد عملت على تنظيم التعليم بطريقة تمكنها من تكوين الموظفين الفرنسيين في الميدانين الإداري والفني إلى جانب أعوان مغاربة ثانويين، كما قاموا بقسيمه إلى ما يلي بالترتيب: أوربي- ويهودي- وإسلامي- وبربري.
لكن استطاع -بحنكته المعروفة- شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله والمقاومة المسلحة التي كانت على أشدها في جنوب المغرب تافيلالت والأطلس المتوسط وشماله في العشرينات من القرن الماضي أن يخطط لمقاومة الاحتلال فكريا، خصوصا بعدما تبين أن سياسة فرنسا التعليمة في البوادي تعتمد على ما خططه الظهير البربري 20 شوال 1332هـ الموافق 11 شتنبر 1914م، حتى إنه وقع التأكيد على حذف اللغة العربية أصلا، واعتماد الفرنسية والشرح بالبربرية، ولذلك كانت الغاية أولا من إنشاء المدارس الحرة 1926 هو تنشيط الفكر الوطني أولا، وثانيا بعد ظهور إصلاح برنامج التعليم بالقرويين؛ والذي وضعه شيخ الإسلام سنة 1930م؛ هو تزويد القرويين بالطلبة بعد إعدادهم فكريا وعلميا، حتى تكون منهم الأطر الصالحة لتحقيق فكرة التعليم الحر، بعدما تقرر حذف الابتدائي من منهج الدراسة بالقرويين حسب النظام الجديد.
كانت خطته محكمة رحمه الله في إصلاح التعليم بجامعة القرويين التي أصبح فيها بدلا من مطلق إلى محدد باثنتي عشر سنة، ابتدائي ومدته 3 سنوات وثانوي ومدته 6 سنوات وعالي ومدته 3 سنوات، يحصل بعدها الفائز على شهادة العالمية، وإذا كانت قَبلُ تُخرج القضاة والعدول، فإنها في عهد الإصلاح وأيام النهضة أصبحت تخرج الأطر الوطنية الصالحة للتعليم الحر، وبذلك أمكن للفكرة أن تنمو وتتطور، ثم تتم بطريقة جد مفيدة لأنها بعد عام 1944م مزجت التعليم بالسياسة الوطنية ضد الاحتلال.
لكن إقبال المغاربة على هذا التعليم دفع بالمحتل إلى استصدار ظهير بتاريخ 1937 يلزم المدارس الحرة التي أخذت تنتشر بقوة تساير قوة الدعوة إلى السلفية، إلى تعليم مواد محددة تتلخص في: تعليم القرآن واللغة العربية والكتابة بها، وتعليم مبادئ النحو والفقه الإسلامي، وتلاوة الكتب الدينية في المحفوظات الموجودة في نفس الكتب، والأخلاق والواجبات نحو العائلة.
وبهذا منع حتى الحساب الذي كان مقررا في برنامج المدارس التقليدية الأكثر تأخرا، كما نص هذا الظهير على إقفال كل مدرسة يخبر المفتش بأنها تعلم مواد أخرى.
وقد قام الاحتلال بمعاقبة عدة مدارس حرة بعدة مناطق قامت بتدريس الحساب والتاريخ والجغرافية والأدب، فكانت الحملة القاسية عليها، ونذكر منها: فجيج، مدارس زناكة، بركنت، بركان، بوعرفة، إتزر، أزرو، بني ملال، ابن الرشيد، تاليوين، أكلميم، أكادير، تازة، الرماني، فاس، مكناس، قصبة تادلة، وغيرها..
ومهما يكن فإن ما أسداه التعليم الحر للمغرب من نشر الوعي والتعجيل بالتحرير والتكوين السريع للمناضلين ضد الاحتلال الفرنسي لا يعرف أثره إلا من عاش التاريخ السياسي لتلك المرحلة، وكيف تطور بسرعة مذهلة في المغرب، وكيف أنه بحق كان العامل الذي كثف الضغط وفجر بركان المقاومة بعد 1953.
انظر التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير
المجلد 9 الصفحة 255 وما بعدها.