لا يخفى على البصير أن (سُنة التدافع) من سُنن الله تعالى التي يتجلى فيها التدافع بين الخير والشر، والمدافعة بين أهل الحق والباطل، حيث ينتهي الأمر -بوعد الله وفضله- إلى زهوق الباطل المستبين، وانتصار الحق المبين، فـ(العاقبة للمتقين)1.
وعليه فـ(سُنة التدافع) إذا تم إعمالها وفق الهدي النبوي كانت حكمة هادية تُشكل نهجا سديدا لترشيد المسار، وتجاوز الأخطار، دون الانتهاء إلى الانهيار..
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فإذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم”2.
فغياب فقه سُنة التدافع وفق مراد الله الشرعي(!!)، من أسباب حدوث التصرفات المتهاوية التي تؤول بالناس إلى الفوضى والاضطراب، والانحراف عن السنة وما دل عليه الكتاب.
فليست العبرة بعد إخلاص النية بظهور التدافع، وإنما الشأن كيف تُحققه حتى لا يحصل مجرد التصارع3، فمن الخطأ البين في طريق الدعوة أن (نُشغَل بوعد الله عن مطلوب الله)!، وأن (نُشغَل أيضا بما أُريد بنا عما أُريد منا)!، بدعوى تحقيق الذات..، فنقع في التضحية برأس المال (المضمون) طمعا بالربح (المظنون )!، فإن (الحق ليس للقوة، وإنما تكون القوة قوة بالحق)..
وفرق بين تحكيم (الشارع)، والاحتكام إلى (الشرع)، وفرق بين تحكيم (الدوافع)، والاحتكام إلى ما يجب شرعا في (الواقع)، كما يجب التنبه إلى التباين بين حقيقة (سُنة التدافع شرعا)، وما يُعرف بـ (صراع البقاء واقعا)، أو كما يسمى في عرف الشريعة بـ(المغالبة دفعا) فإن هذه الأخيرة تُقصد لأجل الغلبة والسيطرة فحسب دون (سند شرعي) ولا (هدي نبوي)..
وقد قال عليه الصلاة والسلام:” إنكم لن تبلغوا هذا الأمر بالمغالبة”4، فاحذر -يا رعاك الله- أن تَخلط بين (العسل) و(البصل)..، واعلم أنه من أسباب هذا الخلط تقديم (الآراء والأنظار الفكرية)، و(التحليلات والتوجهات السياسية 5)، على (الحقائق والأصول الشرعية)!!، فَتَرى -بَعْدُ- الحرص قد توجه إلى ما (يطلبه!) الجمهور، لا إلى ما (يحتاجه) الجمهور(!!) لوقوع الجزع بسبب تغير الأحوال، مع أن العبد المسلم مأمور بخلاف هذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله:
“وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى. وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر إن وعد الله حق وليستغفر لذنبه وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار”6.
ومن المهم إدراكه وفهمه أن (سُنة التدافع) لها متعلق بـ(سنة النصر)، ولذا ذَكَرَهُمَا الله تعالى في سياق واحد فقال سبحانه: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
فنستفيد من هذا الاقتران بين الأمرين أن سُنة التدافع يجب أن تُضبط على أُسس سُنة النصر ويتلخص ذلك7 في (ضبط حقيقة النصر ومجالاته)، و(تحديد أساس النصرة ووسائلها)، و(مراعاة الفرق بين التأسيس والتنفيذ في سنة النصر)، و(تلمح عامل القوة والضعف)، و(اعتبار التفريق بين النصر الشرعي والتفضلي والكوني) وذلك كله وفق سنة النبي عليه الصلاة والسلام فإن “الاستقراء والتتبع يُبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونَصْرَه ونَصْرَ أتباعه على من خالفه”8.
وهاك فيما نحن بصدده وصية قائمة على التحقيق من إمام دقيق وهو العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال ناصحا: “إنا نَصْرَنا لله لا يكون بالأقوال البراقة، والخطب الرنانة التي تُحَوِّل القضية إلى قضية سياسية! وهزيمة مادية! ومشكلة إقليمية!
وإنها -والله- لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي -كله-.
إن نصر الله -عز وجل- لا يكون إلا بالإخلاص له، والتمسك بدينه -ظاهرا وباطنا-، والاستعانة به، وإعداد القوة المعنوية والحسية..”9.
فالحذر الحذر من خوض غمار الدعوة والعمل بسُنة التدافع مع قُرحة في النظر، وضعف في فهم الأثر، ومخالفة ما سبق من الأمر، وسلوك مسلك فيه ما فيه من الكدر(!!)
فعلى كل من يريدُ الخيرَ لنفسه ولأمَّته أن يسلك في جميع أحواله سبيل الرُّشد دون إجحاف، ويَعْدِل عن طريق التَّعدي والاعتساف، ويأخذ بسُنة التدافع على مقتضى الإنصاف، وليعلم أن الباطل لا يدوم، كما ذكر إسحاق بن راهويه لما كتب إلى أبي زرعة رحمهما الله قائلا له: “لا يهولنَّك الباطل، فإنَّ للباطل جولةٌ ثمَّ يتلاشَى”10.
فما عليك وأنت آخذ بركاب سُنة التدافع إلا أن تحرص على تحقيق ذلك كما أراد الله تعالى، وكما بينه نبينا عليه الصلاة والسلام بمعيار العلم والفهم، لا بمعاول الجهل والوهم، فليس كل من تسربل بثوب (دعوة الحق) هو فاهم لمراميها العَلية على وفق سُنن الله الشرعية!
ومن ثم فما ينبغي أن يُسمح ويُفسح لمن هذا حاله أن يعمل في رياض الدعوة تأصيلا وتنزيلا(!!)، ولا (التربع) على (عرشها)! ولا النفخ في (آذان من يعيش في أكنافها )! ولا الوسوسة في (قلوب) و(صدور) المقبل عليها!
فالله الله في مراعاة مراد الله الشرعي عند الأخذ بسنة التدافع، وسعيا لتحقق سنة النصر بالنظر العلمي، فإن المقياس عند الله غير المقياس عند البشر، فإنه سبحانه يجعل من الضعف قوة كما هو واضح في قوله عليه الصلاة والسلام: “إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم”11.
فإذا كنا نرى القوة اليوم بيد أعدائنا، والغلبة لهم علينا.. فما ينبغي أن نغفل أن الله هو المتصرف في هذا الكون، وأنه مطلع على حال عباده المؤمنين، ولن يرضى لهم الذلة واستمرار القهر، كما قال عليه الصلاة والسلام:” الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواما، ويضع آخرين”12، فلا بد أن يرفعنا بعد أن وضعنا، ولا بد أن يغير من حالنا إذا رأى منا صدق السعي لمرضاته، والعمل على وفق مراده، فإن “التغيير مأسور بمضمار الشرع، موزون بمقاييس الكتاب والسنة، فمتى اختل شيء منه وجب إبعاده والبراءة منه، أما وسيلة محدثة يُتعبد بها فلا”13.
وصفوة الكلام أن الغاية من سُنة التدافع إبراز جملة من المقاصد المتمثلة في أهداف الدعوة ولن تتحقق هذه الأخيرة” من العمل على هداية العباد.
– وإقامة الشريعة بينهم.
– وإظهار الحجة على الخلق.
– والإعذار إلى الله تعالى.
إلا بالبيان الكامل لدين الله حسب الوسع والطاقة، ولن يفوت على الداعي بَعْدُ نصف مراده من أهداف دعوته، إما الهداية وإقامة الشريعة، أو الإنذار والإعذار إلى الله تعالى.
ومن وراء ذلك التذكير بالمصير، وأن هناك وقفة بين يدي الله سبحانه، ولا بد لها من زاد، ولا زاد لها إلا التقوى.
ولا تلتفت بَعْدُ إلى إثارة الرهج، وتصعيد النظر بأسئلة الانهزام أمام دعوات التغريب.
أين التنظيم؟! أين القوالب؟! أين الخطوط العامة؟! أين الترتيبات الإدارية؟!… وهكذا من النداءات التي نهايتها دعوة إلى تغيير حقيقة الدعوة على منهاج النبوة.
وما علموا أن الدعوة الإسلامية على منهج النبوة لها غاية تتميز عن أية غاية لأي دعوة: تحقيق التوحيد وترسيخ الإيمان، ولهذا اتَّحدت حقيقتها ونظامها، وسيلتها وغايتها، فلا يسوغ لنا بحال أن نُلْبس الدعوة إلى الله لباس تنظيم أجنبي عنها، واستفراغ الجهد فيه، مما يؤول بالهدم والإسقاط لأصول الدعوة وبنيتها الأساسية وتفريق الكلمة”14.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول” إعلام الموقعين 2/178.
2. مجموع الفتاوي 1/310.
3. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “قال بعض السلف: ما من فِعلة وإن صغرت إلا يُنشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي: لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه.. والثاني: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد..” إغاثة اللهفان 1/8.
4. رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع رقم:2311.
5. ولا يخفى أن المقصود بالسياسة -هنا- السياسة العصرية، بطرائقها ودهاليزها، وأوضارها، وآثارها.. ويعجبني في هذا المقام ما ذكره مصطفى صادق الرافعي رحمه الله حيث قال: “في الضرورات السياسية لا يَحْفِلُ أهل السياسة أن يصدقوا أو يكذبوا فيما يعلنون إلى الناس، ولكنَّ أكبر همهم أن يقدموا دائما الكلمة الملائمة للوقت!!” كلمة وكليمة لحسن السماحي سويدان 42، وانظر غير مأمور مقالا حَرَّرَ صاحِبُه موضوعه بعد صولات وجولات فيه بعنوان: (أعوذ بالله من السياسة) لعائض القرني!!
6. مجموع الفتاوي 18/291، وقال كذلك رحمه الله في كتابه الاستقامة 1/39: “ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق، وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر”.
7. وبسط تفاصيله طويل الذيل كما يقال، والله المستعان.
8. الجواب الصحيح لشيخ الإسلام رحمه الله 6/416.
9. الضياء اللامع من الخطب الجوامع ص: 664.
10. مقدمة الجرح والتعديل 342.
11. صحيح سنن النسائي للإمام الألباني رحمه الله رقم: 2978.
12. صحيح الجامع برقم: 6737.
13. حكم الانتماء للعلامة بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله ص:161.
14. 14. حكم الانتماء للعلامة بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله ص:156-157.