تغير الفتوى.. “نظرية علمية”.. لا (تدحرجات فكرية!).. (الحلقة الأولى) رشيد مومن الإدريسي

من مظاهر القُرحة التي تصيب الأنظار عند البحث العلمي: (مزج الشرع بمحض الرأي)! كما حدث في عصرنا الحالي خاصة الذي توالت فيه الفتن وتعددت المحن، ومن صوره الأخذ بنظرية (تغير الفتوى..) على خلاف ما عليه أهل التحقيق والهدى، فنتج عن ذلك التفلت من الضوابط المعتبرة، والتساهل في القضية والمسألة تحت غطاء (فقه المرحلة!)1..، أو بدعوى (ضغط الواقع!)2..، فَيُرى بعد وبجلاء ما اصطلح عليه أحد الفضلاء بـ(التدحرج الفكري3)!! فتُمسخ عند كثير من الناس دعوة الحق والسناء، وتصير أطلالا يقف عليها المحبون للبكاء، وربما العويل بلا انتهاء..

لا شك أن (تغير الفتوى..) عند أولي النهى: موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، وسبيل لفشو الوهم، إذا لم يُضبط الأمر بسداد العلم والفهم..
نعم، هذه النظرية4 “إذا استعملت على وجهها، أثمرت وأينعت وآتت أكلها، أما إذا اعتسف فيها وحُمَّلت من المعاني ما لا تحتمل، فإنها تخبط براكبها خبط عشواء، وتلقيه في بلقع لا في أرض ولا في سماء..
إذ فرخت هذه النظرة التعسفية: إلغاء نصوص القرآن والسنة النبوية بالكلية، وأصلت أصلا جديدا في التشريع، وهو أصل المصلحة في كل زمان ومكان، دون مراعاة سنة أو قرآن!!!..”5.
اعلم -يا رعاك الله- أن جملة من تكلم من أهل العلم حول هذه النظرية، في جُمَلِهم العلمية حولها قدر من الإجمال والاشتراك من جهة دلالة الألفاظ6، مما ينبغي معه عند استعمالها من المؤهل في ميادين الحكم والفتوى من تحديد لمجالها قبل، وفهم لحقيقتها العلمية، وضبط لمراميها ومقاصدها، والحرص على حسن صياغتها فـإنه “من القواعد المطردة عند العقلاء أن تَحَدث المرء فيما لا يعرفه ولا يحسنه ضرب من السفه والحمق”7، وإلا سيقع الناظر في (التساهل في الفتوى)، وهذا الأخير “من عُرف به حرم استفتاؤه: فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر..”8.
ولذا من المهم عند الأخذ بنظرية (تغير الفتوى..) خصوصا: شهود مشهد (تعظيم النفوس للقول في الدين)، فإن الشريعة يجب أن تُصان عن التخوض فيها بغير علم، وهذا شأن من مسائل الديانة فتأمل ولا تعجل، فـ”قل من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارها لذلك، غير مختار له ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب”9.
فمن المقرر عند العلماء أن (الأصل في الشريعة العموم، وفي أدلتها الوقوع، وفي أحكامها الثبوت)، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله مقرر له: “فلذلك لا تجد فيها (أي: الشريعة) بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك”10.
فنظرية (تغير الفتوى..) يجب أن تُفهم في ضوء هذا الأصل إذ هي فرع عنه فتأمل وبالعلم تجمل، لكي تُحفظ من الخلل والزلل فإنه “ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به”11.
يعبر العلماء عن نظرية (تغير الفتوى..) 12 بقولهم: (لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الزمان)13، أو (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد)14..، وعليه فـ”الأحكام نوعان:
نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة”15.
ولإيضاح حقيقة هذا التغير نقول على جهة الإجمال: تغير الفتوى أو الأحكام وفق هذه النظرية ليس المراد منه تغير ذات الأحكام، وإنما تتغير تبعا لما تعلق بها في حالها أو واقعها مما لا يُعد في ذاته حكما شرعيا، ولكنه متعلق ومناط للحكم الشرعي16، مما يدل على غلط من يُضيف هذا التغير للشريعة (!!)، وإنما هو متصل بالمجتهدين، ومن تم فإن نظرية (تغير الفتوى..) لها متعلق بـ(تحقيق المناط العام أو الخاص)17، بحيث من لم يضبط كُنهه وفق الصنعة الأصولية ضل، ومن أَخرج البحث إعمالا للنظرية عن هذا المجال زل، ولذا أخطأ من قال: الأحكام تنقسم إلى قسمين: ثابت، والآخر متغير، وعرف المتغير بأنه: “موارد الاجتهاد، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح!”18، هكذا بإطلاق قائم في الأصل على عدم ضبط مفهوم هذه النظرية، إضافة إلى ما يتخلل هذا الكلام من مزالق أصولية!! قد سار على اعتباره كذلك قولا وحالا -وواأسفاه- كثير ممن خاض في بعض الأمور الجارية!!!
إن الأدلة كما هو معلوم عند أرباب النظرة الأصولية على نوعين:
– أدلة إنشاء للحكم كالآية والحديث..
– وأدلة تكشف عن الحكم كاعتبار العرف، والمصلحة المرسلة..
أو يقال كما عبر عنه بعض المحققين: الأدلة على قسمين:
– أدلة تشريع الحكم..
– وأدلة وقوع الحكم..
ونظرية (تغير الفتوى..) بناءا على ما سبق تقريره ترجع عند أهل العلم والفهم -في الجملة وعلى جهة العرض لا الأصل- إلى (الأدلة الكاشفة للحكم)، أو (أدلة وقوع الحكم) دون غيرها، ولذلك غير صحيح أن نجعل تغير اجتهادات أهل العلم المتعلقة بتغير فهم نصوص الوحيين، أو بسبب بلوغ الحديث بعدما كان غائبا عن الناظر في المسألة، أو ما يُعرف في مبحث العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين من نصوص الكتاب والسنة له ارتباط بالنظرية، حيث هذه الأمور لها صلة بأدلة التشريع لا الوقوع، وبأدلة إنشاء الحكم، لا بأدلة كشف الحكم، ففرق بين تغير الاجتهادات لتغير الحال، وتغير الاجتهادات لتغير فهم النصوص الشرعية وما يرجع إلى ذلك فتأمل.
وللبحث بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. لا شك أنه قد يعرض في مسير الدعوة إلى الله حالات تستوجب نظرا علميا خاصا مراعاة لـ(واجب الوقت)، أو ما يسمى بـ(فقه المرحلة)، لكن إذا لم يُحكم هذا الفقه من أهله، يَظهر التعجل الذي يمنع التوصل، فيحصل الصِدام الذي يثمر الحنظل ولو بعد حين ومن ذلك التفرق بين أهل الدين!!
وفي مجلة البيان رقم: 43/44 ص:33 مقال بعنوان: “خُدعة الصدام المتعجل” فانظره غير مأمور.
2. “لم يكن ضغط الواقع ليؤثر في تقرير المعارف الفقهية، بل إن كلمة (لا أدري) ظلت تتردد في مجالس الدرس وتنشأ عليها الأجيال، مع التحذير من أن يؤتى العقل الفقهي من قبل الاستعجال وعدم التأني، فإذا أخطأ الرجل (لا أدري): أصيبت مقاتله” الأساس في فقه الخلاف ص:212.
3. كما في مقال للشيخ أحمد النقيب وفقه الله على موقعه الالكتروني بعنوان: (السلفية السياسية والتدحرج الفكري)!!
4. تسميتها بـ”النظرية” أولى على وفق قواعد النُظار في المواضعة والاصطلاح، لأن النظرية تنطبق على التصورات العقلية التي ترتبط فيها النتائج بمقدماتها، بخلاف “القاعدة”..
5. تغير الفتوى لمحمد بازمول ص: 7-8.
6. ويحسن في هذا السياق استحضار ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في معرض الكلام عن مبحث من المباحث الدقيقة حيث قال: “..والمقام مقام معروف، وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين وعامتهم فهموا صحيحا، ولكن قل منهم من عبر فصيحا” الفتاوي 8/389.
7. رسالة وقفات عند قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) لعبد الكريم التويجري ص: 17.
8. المجموع شرح المهذب للإمام النووي رحمه الله 1/46، وانظر ما قاله الإمام السمعاني رحمه الله وهو يتكلم عن شروط المفتي في البحر المحيط 6/305.
9. الفقيه والمتفقه 2/350 للخطيب رحمه الله.
10. الموافقات 1/78-79.
11. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 22/196.
12. وكثير من الأمثلة التي ساقها بعض أهل العلم لنظرية (تغير الفتوى..) لا يُسلم بها على وفق النظر الدقيق والتحقيق. انظر المدخل المفصل للشيخ بكر أبي زيد رحمه الله 1/84.
13. كما في مجلة الأحكام العدلية، المادة:39، وشرح القواعد للزرقا رحمه الله ص:227، وكلمة (الأحكام) الواردة في هذه النظرية مخصوصة عند بعض النظار بـ(الأحكام المبنية على العرف والعادة فقط)، ولذا هي عندهم متفرعة عن قاعدة “العادة محكمة” انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/47.
14. انظر إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 2/425.
15. إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله 1/330-331.
16. اعترض بعض المحققين على لفظة (الأحكام) في هذه النظرية، وأن الصواب أن يقال: (الفتوى) باعتبار أن الحكم ثابت لا يتغير بخلاف الفتوى. انظر المدخل المفصل للشيخ بكر أبي زيد رحمه الله 1/84 – الحاشية.
17. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “اتفقوا على تحقيق المناط وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي، فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان” الفتاوي 19/16.
18. الثوابت والمتغيرات لصلاح الصاوي ص:40.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *