ما لنا وما لهذا الغرب؟
لقد احتل أرضنا عقودا من السنين، ومراحل من الزمان، فأسقط خلافتنا، وغـيَّر أنظمتنا، دنس أرضنا، واستغل ثرواتنا وماءنا وسماءنا..
بنى حضارته فوق مآسينا، وتعلم في شعوبنا كيف يسود العالم..
جرب فينا أسلحته، ودرّب فينا جنوده، وصدر إلينا عيوبه..
زرع بيننا الفتنة والتفرقة، فصرنا قطعا متجاورة في الجغرافيا، متناحرة عبر صفحات التاريخ..
ساسنا بسياسة فرق تسد، واحتضن أذنابه الذين صاروا يعرفون على مرِّ التاريخ بالخونة وأذناب المحتل..
قوّض الهوية، وغـيّر المفاهيم، وجعل سافل الأخلاق عاليها، وعالي الأخلاق سافلها..
شجع حملات التنصير، فتنصر بعض الناس، منهم الشاك في دينه أو اللاهث وراء تقدم الغرب.. ولا خير في الاثنين.
قتل الأبطال، وهجَّر المواهب، وعذب من سولت له نفسه الجهر بالحرية..
أدخل معه صورا من الحضارة، لكنها كانت ويلات علينا لأنها لم تنبت بيننا، ولم تعرف لمنظوتنا الروحية والأخلاقية أية قيمة، فهي قد جاءت لتحارب باسم الحرية رب السماوات والأرض “يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” الصف..
جاء بالمطبعة غير أنه لم يطبع كتب عقيدتنا الصافية، والعبادة النقية، والسلوك الرباني، ومتابعة الهدي النبوي..
بل طبعت التراث العقيم، من ضلال علم الكلام والفلسفة، وكتب الزندقة والمجون، وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..
نشر الكثير من العدل الزائف؛ وهو ما جعل العديد من السذج والمغفلين يحنون لسطوته..
وفي المقابل..
عرى على خذلاننا وخورنا وضعفنا وهواننا على الناس..
وفضح حرصنا على الدنيا ومخافتنا للموت..
ظلمنا واستغلنا وأرادنا أتباعا له نهيم في وديان التعلق به، ونسبح في بحر أحلام الارتقاء برتبه، واقتسام السيادة معه..
لكن رغم انقلاب التاريخ علينا كان في الأمة بقية خير باقية، كان منها:
– العلماء الذين يبلغون الناس دينهم، ليحيوا بنور الوحيين..
– والمجاهدون الأبطال الذين لم يرضوا الذل والهوان، ورغم ضعفهم صوروا صورا من البطولات، وهي ما نملك من إشراقات في حلك تلك المرحلة المظلمة..
– والقادة الذين يقدمون سيادة الأمة، ومصالح الرعية، والموت فوق رقابهم..
غير أن هؤلاء كانوا قلة في كثير كغثاء السيل، لا يرد يد معتدي..
وجاءت ساعة الحرية والاستقلال..
فوجدنا أنفسنا دولا جديدة فتية، يلزمها بناء قوي..
لكن أخطأنا طريق ذلك، لأن العدو لم ينسحب بعد..
فهو لا يزال يحتل قوانينا ومفاهيمنا ومظاهر تمدننا..
لم ينسحب من برامج تعليمنا، وسياسة إعلامنا..
لم ينسحب من الكثير من مراكز القرار التي كان ينبغي أن يرأسها المدافعون عن الهوية والدين؛ والذين تم إدراجهم في خانة أعداء التبعية للمحتل، بل تولى المناصب من صنع وهجَّن في مدارس وجامعات ومعاهد المحتل نفسه..
لقد انخرطنا في مشروع وجهه لنا الغرب المحتل الذي هزمناه على مستوى الحرب والآلة العسكرية، لكننا انهزمنا أمامه على مستوى الفكر؛ الذي لا زال يخترق حدودنا عبر طرق جديدة من الاحتلال..
أراد قوم الإصلاح..
أراد أهل العلم والصلاح القيام بدورهم الريادي في توجيه وترشيد المجتمع، لكن السياسة التي انخرطت فيها الدول في اتباع سياسة المحتل تصادمت ومشروعهم، فما كان من هذه الدول إلا أن احتوت العلماء في مؤسسات؛ وقيدت دورهم في أمور لا تجعلهم نافذين في صنع القرارات والتوجهات؛ والتأثير في سياسة بلدانهم..
ذلك لم يمنع قدر الله، فقد قيض الله من أولئك العلماء وغيرهم أناسا لا يزالون يدافعون عن الدين والهوية والأخلاق والفضيلة، ويواجهون مشاريع الإفساد والرذيلة..
وهؤلاء المدافعين عن الهوية والأخلاق لم يسلموا من هجمات أشباح جدد؛ يخدمون مشروع محتل الأمس ويتبنون فكره..
العلمانيون الوجه الآخر للمحتل..
لقد استطاع الغرب عبر انتهاجه لسياسة التغريب من تهجين زمرة ممن يتكلمون بألسنتنا وهم من بني جلدتنا، لكنهم يدينون بالولاء لملة الغرب وفكره، فهم من يشهر اليوم أوراق ذاك المحتل القديم في أنديتنا، ويمرر طرقه وآلياته في سياستنا..
لقد عاد المحتل من جديد عبر:
– نشر الفكر العلماني والتمكين له في المجتمع..، وتسويد خطابه في الإعلام، ووضع برامجه في التعليم..
– رجع في السينما الجنسية والفرانكفونية التي تستهدف القيم والأخلاق والمفاهيم..
– رجع عبر نشر المراكز الثقافية ودعمها للأوراش التي تخدمه..
– رجع عبر دعم المنظمات النسائية..، وطالب باسم المرأة المسلمة حقوقا لا تصلح إلا للمرأة الغربية، ومن ذلك إزالة جميع أشكال التمييز بين الرجل والمرأة، فطلب تعديل الإرث، وصارت المرأة قوامة على الرجل..
– رجع عبر صفحات المجلات النسائية التي لا تتقن غير تسليع المرأة وإبراز عورتها، واستهداف عفتها..
– رجع عبر نشر المهرجانات الثقافية والموسيقية والسينمائية، التي يحتفى فيها بكلام السفهاء، وتتوج أفلام الإغراء الجنسي..
– رجع عبر دعم الشواذ والشذوذ، والدفاع عن “حقوقهم” وحرياتهم، واحتضان جمعياتهم، وإقامة المؤتمرات التي تجمع شتاتهم..
– رجع باسم الديمقراطية والحداثة والعلمانية، وتأليه الحرية الفردية..
– رجع عبر سن قوانين تجرم الإسلام، وتحارب سيادته، وتجعل الكثير من قيمه إرهابا وتطرفا ورجعية..
– رجع عبر تمويل حملات التنصير من جديد، فقد علم أن قلوبا مستعدة لبيع دينها بدنياها..
– رجع من جديد ليدافع عن العصبية البربرية، وينسي القوم أن اللحمة الإسلامية هي التي حاربوا بها هذا المحتل الغاشم الذي يحيى بتبعيتنا..
فلماذا لا يريد هذا الغرب فراقنا؟
أم ترانا نحن الذين لا نريد فراقه؟