هذه الخطوة يراها كثير من المراقبين أنها إعادة لسيناريو العراق، والذي بدأت عملية احتلالها بتحطيم اقتصادها بحصار طويل، وبرامج النفط مقابل الغذاء، وتجميد أصولها وأرصدتها في الخارج لصالح تعويضات وهمية للحرب على الإرهاب، والشروع في امتلاك أسلحة دمار شامل. ثم كانت الخطوة التالية لعملية تحطيم الاقتصاد العراقي والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات بأدوات قانونية وأممية ومؤسسية
أسقط الكونجرس الأميركي فيتو الرئيس باراك أوباما على مشروع قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”، المعروف “جاستا”، والذي يتيح لعائلات ضحايا هجمات 11 أيلول 2001 ملاحقة السعودية في شأن أي دور لها في تلك الاعتداءات الإرهابية.
وشكل التصويت رفضاً كاسحاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لحجة البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية والبنتاجون، أن “الجاستا” يشكل تهديداً للأمن القومي لكونه قد يعرض مسئولين أميركيين لملاحقات مماثلة في الخارج. وأسقط مجلس الشيوخ الفيتو بغالبية 97 صوتاً مقابل صوت واحد (زعيم الأقلية الديمقراطي هاري ريد) ومجلس النواب بغالبية 344 صوتاً مقابل 76.
واضعو القانون زعموا أنه يهدف لإيجاد حل للسلسة المعقدة من الأحكام القضائية الأمريكية، والتي عرقلت كل الدعاوى التي رفعها عائلات ضحايا هجمات 11/9 ضد المملكة العربية السعودية.
وكان مجلس الشيوخ قد مرر مشروع القانون في شهر مايو الماضي بعد أن تم التصويت عليه بالإجماع، ومنح مجلس النواب موافقته على مشروع القانون هذا الشهر. أوباما وصف إلغاء الكونغرس لـ”الفيتو الرئاسي” حول القانون الذي يسمح لذوي ضحايا هجمات 11 سبتمبر بمقاضاة المملكة العربية السعودية بالقرار الخاطئ.
وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الكونجرس الأمريكي بإلغاء “فيتو” الرئيس منذ سنة 1983، مما شكل سابقة تدل على خطورة هذا القرار!! حتى أن المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست، وصف الأمر بأنه: “الشيء الأكثر إحراجًا الذي فعله مجلس الشيوخ منذ عام 1983”.
قانون خطير وتداعيات أخطر:
في مقابل هذا الاندفاع المحموم من جانب المؤسسة التشريعية الأعلى في أمريكا نحو تمرير القانون، تعالت الأصوات الرسمية وغير الرسمية داخل أمريكا تحذر من مغبة إقرار وتفعيل هذا القانون، وأكدت الوكالة الأمريكية على امتلاك المملكة السعودية ترسانة من الأدوات للانتقام، مضيفةً بأن المملكة قد تتبع عدة إجراءات انتقامية ضد واشنطن وذلك بتحذير الولايات المتحدة على خلفية قانون “الجاستا”، وعددت الوكالة مجموعة من الإجراءات تستطيع السعودية اتخاذها ردا على الكونجرس، بدءا من تحجيم الاتصالات الرسمية، وسحب مليارات الدولارات من الاقتصاد الأمريكي، وإقناع حلفائها المقربين في مجلس التعاون الخليجي بالتراجع عن التعاون في مكافحة الإرهاب، والاستثمارات، وحرمان الولايات المتحدة من استخدام قواعد جوية هامة.
من جانبه قال تشاس فريمان، السفير الأمريكي السابق في الرياض: إن السعوديين قد يردون بأساليب تمثل خطرا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، تتعلق بالقواعد المتساهلة للتحليق بين أوروبا وآسيا، والقاعدة الجوية القطرية التي تستخدمها الولايات المتحدة لتوجيه عملياتها العسكرية في أفغانستان والعراق وسوريا.
بالجملة فإن تمرير قانون الإرهاب من شأنه أن يعقّد العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة. كما يمكن أن يعرض الحكومة الأمريكية والمواطنين والشركات الأمريكية إلى دعاوي قضائية. وعلاوة على ذلك، فإن خبراء قانونيين، مثل ستيفن فلاداك من كلية الحقوق بجامعة تكساس وجاك جولدسميث من كلية الحقوق بجامعة هارفارد، يشككون في أن تشريع كهذا من شأنه أن يحقق أي أهداف.
فلماذا إذاً هذا الإصرار المريب على تمرير مثل هذا القانون ذي التداعيات الخطيرة، والآثار الإستراتيجية الضارة، واستخدام كل الأدوات المتاحة دستورياً وقانونياً لتمريره؟!
وهل هو من باب إحقاق العدالة فحسب، أم إرضاء للناخب الأمريكي المتعاطف مع عائلات الضحايا، والانتخابات التشريعية على الأبواب؟!
أم أن القانون الخطير له أسباب وأسرار أخرى غير معلنة؟!
وما هو الثمن الباهظ الذي سيدفع في مقابل هذا القانون الخطير؟!
فتش في التواريخ:
البحث في التواريخ عادة ما يكشف الكثير من الحقائق المخفية. فبداية الجاستا كانت مع الشبهات التي أثيرت عن الـ28 ورقة التي أمر البيت الأبيض بإخفائها من التقرير النهائي الذي تم إعداده من قبل لجنة المخابرات في الكونجرس عن أحداث 11 سبتمبر، والذي قال البيت الأبيض وقتها أنه يمس الأمن القومي الأمريكي ولا ينبغي الكشف عنه. مما فتح الباب لكثير من الشائعات والتكهنات عن الدور السعودي الرسمي في الحادثة بناء على أن 15 من منفذي الحادثة كانوا سعوديين!!
“ستيفن لينش” أحد أعضاء الكونجرس الذين قرأوا الصفحات السرية أخبر أنه لا يمكن الاستدلال إذا ما كان الأشخاص المتعرف عليهم في التقرير “يعملون كجزء من حكومة أو ضمن وكلاء محتالين”. ومن جانب آخر صرح الأمير بندر بن سلطان في عام 2003 أنه يفضل أيضًا أن يتم الإفصاح عن الصفحات حتى يتأكد الناس أن السعودية لا علاقة لها بالتفجيرات، مؤكدًا أن السعودية ليس لديها شيء تخفيه، وشاركه في ذلك الرأي الحكومة والسفارة السعودية، وأضاف الأمير بندر أن “فكرة كون الحكومة السعودية مولت وأعدت أو حتى أنها تعرف عن 11 سبتمبر فكرة كيدية وخاطئة بشكل واضح”.
مبدأ أوباما وتحركات القس جراهام:
في مارس من هذا العام أعلن أوباما عن مبدأه الشهير الذي رأى أن الإدارة الأمريكية سوف تسير عليها المائة عام قادمة، وأسماه المحللون “عقيدة أوباما”. ويتضح من خلال نهج السياسة الخارجية الأمريكية التي تنفذ هذا المبدأ أنها لن تعتمد على الديمقراطية كوسيلة لتحقيق التوازن، لأن ذلك ببساطة يعني استقلال الشعوب وتقليص النفوذ الأمريكي، بل تعتمد لتحقيق هذا المبدأ على تغذية العصبيات والانتماءات الأولية لضمان حاجة الجميع إليها وتشرذم الشعب العربي إلى طوائف متناحرة. وإقامة توازن قوى بين الأغلبية السنية والأقلية الشيعية، بمحاربة الأولى والتضييق عليها وحصارها، والانفتاح على الثانية والتعاون معها ومد جسور الصداقة والشراكة معها.
وفي نفس الوقت الذي أعلن فيه أوباما عن مبدأه كان نواب من التيار المسيحي المحافظ المتطرف يشنون حملة بقيادة القس جراهام نائب فلوريدا، والمشهور بكراهيته للعرب والمسلمين ضد السعودية، نقلت إلى الصحف تحت عناوين صارخة تقول: “اكشفوا حقائق 11/9″، و”أفرجوا عن الأوراق الـ28 من تقرير الكونجرس عن هجمات 11 سبتمبر”، و”ضغوط على قاض أمريكي لرفع السرية عن 80.000 وثيقة لـFBI”، و”هل تورطت عائلة ساراسوتا السعودية في اتصالات مع عطا”.
وساهم في انتشار الحملة، تصاعد الخلافات السعودية الأمريكية على خلفية “عقيدة أوباما” الجديدة، والتهديدات السعودية ببيع أصولها في أمريكا، قبل أن يزور الرئيس الأمريكي أوباما الرياض لتلطيف الأجواء، في أبريل 2016.
شهادات مضروبة:
هل يتخيل القارئ أن قانون الجاستا الخطير والمرشح لأن يكون قاصمة الظهر للعلاقات الأمريكية الخليجية قد تم إقراره بناء على شهادة شخص واحد فقط!! نعم شخص واحد هو “زكريا موسوي”، الذي يقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة، فقد صرح أنه كان على اتصال مع مسئولين في الحكومة السعودية قبل أحداث 11 سبتمبر، وأخبر عن لقائه مع الملك سلمان عندما كان أميرًا ومع أطراف آخرين من العائلة المالكة، بينما كان يوصل لهم رسائل من أسامة بن لادن، كما أخبر أنه في عام 1998 أو 1999 تم توجيهه من قبل القاعدة في أفغانستان لإنشاء قاعدة بيانات إلكترونية تضم أسماء الداعمين للجماعة، وذكر أن من ضمن الأسماء التي أدرجها الأمير تركي الفيصل الذي كان رئيس المخابرات السعودية آنذاك، والأمير بندر بن سلطان سفير السعودية السابق للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الأمير الوليد بن طلال رجل الأعمال الشهير والأمير محمد الفيصل، كما اتهم الأمير تركي، في رسالة إلى قاضي فيدرالي في أوكلاهوما، بأنه أمر مسئولاً سعودياً بمساعدة الرجال الذين أصبحوا بعد ذلك مختطفي الطائرة.
وقد استخدمت شهادة موسوي من قبل عائلات الضحايا ومحاميهم لإثبات قضيتهم، ولا شك أنهم ينظرون إليها كدليل شبه قاطع لادعاءاتهم، نظرًا لكون موسوي عضو سابق في القاعدة وكان ضمن المشاركين في التحضير للهجمات. هذا على الرغم من أن موسوي قد صنف سنة 2005 على أنه مريض نفسي من قبل الأطباء الأمريكيين، في 13 مايو 2006، أمرت المحكمة بنقله مع مجموعة من الحراس من الزنزانة المحتجز فيها بولاية فيرجينيا إلى ولاية كولورادو ليقضي عقوبته في سجن “الكاتراز” من جبال روكي بالقرب من فلورنسا بولاية كولورادو، بسبب هذا المرض النفسي.
وفي 20 نوفمبر 2007، ذكرت القاضية التي حاكمت موسوي أن الحكومة الأمريكية قدمت معلومات غير صحيحة حول الأدلة في محاكمة موسوي وأنه نظرا لتلك الإجراءات، فإنها تدرس طلب محاكمة جديدة له وأنها لم تعد قادرة على الثقة في وكالة المخابرات المركزية ووكالات حكومية أخرى حول تحقيقاتها المتعلقة بقضايا الإرهاب. وفي 23 مايو 2006، ظهر تسجيل صوتي منسوب لأسامة بن لادن قال فيه أن موسوي لا علاقة له على الإطلاق بأحداث 11 سبتمبر.
تحطيم الاقتصاد السعودي:
قانون الجاستا يسمح لعائلات الضحايا في أحداث سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية وغيرها وطلب التعويضات المناسبة على غرار ما حدث في لوكيربي مع ليبيا والتي اضطرت لدفع تعويضات تتجاوز المليارين من الدولارات، وتسليم اثنين من مسئوليها، وبحساب فرق التوقيت وعدد الضحايا، نجد أن السعودية قد تجد نفسها مطالبة بدفع عشرات المليارات لعائلات الضحايا، في أكبر عملية ابتزاز وسرقة في التاريخ المعاصر باسم القانون.
هذه الخطوة يراها كثير من المراقبين أنها إعادة لسيناريو العراق، والذي بدأت عملية احتلالها بتحطيم اقتصادها بحصار طويل، وبرامج النفط مقابل الغذاء، وتجميد أصولها وأرصدتها في الخارج لصالح تعويضات وهمية للحرب على الإرهاب، والشروع في امتلاك أسلحة دمار شامل. ثم كانت الخطوة التالية لعملية تحطيم الاقتصاد العراقي والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات بأدوات قانونية وأممية ومؤسسية، كانت احتلال العراق عسكريا ونهب ما تبقى من خيراته وثرواته وتمزيقه بالكلية حتى صار أفشل بلد في العالم بعد أن كان جنة الله في الأرض، وحائط الصد الشرقي أمام التهديدات الإيرانية.
لذلك انتقد المحلل السابق لشؤون تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة الأميركية، جوناثان شانزر، تصويت الكونغرس، قائلاً “توقيته أخرق في الوقت الذي يغرق فيه البيت الأبيض إيران، الراعي الأول للإرهاب في العالم، بمنصات نقدية”.
فتحطيم الاقتصاد السعودي لا يخدم سوى العدو الإيراني الذي يعيش شهر عسل مع أمريكا في ظل مبدأ أوباما، وذلك في خضم تبادل الاتهامات بين المسئولين الأميركيين والسعوديين حول الدور الذي ينبغي أن تضطلع به البلدان في استقرار الشرق الأوسط.
الشراكة السعودية الأمريكية شراكة جائرة وغير متوازنة مختلة المكاسب، ففي حين تجني أمريكا من وراء هذه الشراكة الكثير من الفوائد والمنافع المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والإستراتيجية، لا تنتفع السعودية بعشر ذلك على كافة الأصعدة، لذلك فإن الجاستا لن يؤثر على السعودية بقدر ما سيؤثر على أمريكا، وإجمالي التعويضات التي يسيل لها لعاب الأمريكان اليوم لن يصل لمبلغ صفقة سلاح واحدة من الصفقات الضخمة التي تشغل عشرات الآلاف من العمال الأمريكان في مصانع السلاح، وهذا ما يجب أن تعيه السعودية وحلفاؤها في المنطقة.
فأمريكا صديق غير وفي، وحليف لا يؤمن مكره، وهي مصرة على معاداة أهل السنة وموالاة الشيعة، لذلك فالفرصة مواتية للتخلص من هذه الشراكة المكلفة والحلف العقيم الذي لم يجلب إلا المتاعب والخسائر الكثيرة لدول المنطقة عامة والسعودية خاصة، وكما قيل في أدبيات العرب السائرة: الخسائر القريبة أفضل من المكاسب البعيدة.