وكمثال لهذا المنهج، القائم على (خَنْزَة) الإنسان، والذي يؤكد بالفعل أن الحضارة الغربية، حضارة عرجاء عوراء، فاقدة للسير المستقيم والرؤية الواضحة. أنه “بدلا من أن يكون هدف الرداء تغطية الجسد، أصبح هدفه إما جذب الأنظار إلى الجسد وتعميق الإحساس باللذة والتسخين الجنسي، أو مساعدة الإنسان على أداء وظيفته”(1).
على أنه لا يفهم من الهدف الثاني الملابس التي تساعد الإنسان على أداء حركته في العمل، وإنما المقصود الملابس المخصصة للوظائف النسوية، كما هو حال سكرتيرة المدير مثلا، حيث نصف الفخذ وفتحة الصدر تحت أنظار(السيد المدير).
فكان هذا الأمر من الأبواب التي توجهت منه “العقلية الغربية إلى التعري في كل مجالات الحياة، ومن هنا شهد الغرب ثقافة العري، التي طبعت أدبه وفنونه، ومن ثم صدرها إلينا مع المثقف العربي المصنوع على النمط الأوربي.
ولذلك فليس عبثا أن يتجه الفن الإسلامي في العمارة، إلى التجريد بدل التجسيد، من خلال اعتماد الخط العربي في الزخرفة والتعبير والأشكال والهندسية الانحنائية، المتكاتفة والمتعاطفة، نقوشا وأسوارا وأزقة، كتعاطف المصلين في الصف خلف الإمام، ثم الأشكال التجريدية في الأعمال من صيام وقيام، كل ذلك لأن التجريد هو الفضاء الأقدر على التعبير عن عقيدة التوحيد”(2).
وحضارة هذا شأنها، أخرجت الدين وأقصت المقدس، وسخَّرت كرامة الإنسان للأرباح المادية والنتائج السياسية، لما أدركت هذه الإعاقة -أو أدْرِكَتها-، وتيقنت من أنها ضلت الطريق، وخرجت عن سلطة المبادئ الصحيحة، ونسفت حتى أحكام العقل السليم، انتابتها رغبت قوية في تحطيم العالم، وتسويد بياضه وإحراق خضرته. لا لشيء إلا لأنه يشعر بحقد دفين تجاهه، وتشعر أنها دون هذا العالم، فاختارت الاستمرار على طريقها المظلم والتفكير في وسائل تجعلها تنتقم من هذا العالم وتعيد الاعتبار لذاتها الشريرة.
وهذا شأن جل الغربيين الذين فقدوا الرغبة في الخير والصلاح، وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة، وزاغت قلوبهم وانحرفت، واعتلت أذواقهم، فلم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضررا، بل لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات، إلا قوة وسرعة في الهلاك والإهلاك، واستعانة على الانتحار وتيسيره(3).
فلابد إذن أن لا يُشرَّف باسم العلم، كل مصنوع مصنوع، وكل آلة ألة، وكل مبتكر مبتكر، إلا إذا خدم البشرية جمعاء، دون القوي على حساب الضعيف، وخدم الإنسان والحيوان، دون الإنسان على حساب الحيوان. وخدم المادة والروح، دون المادة على حساب الروح.
وأغلب المستجدات، لا نجدها تقدر على هذا الشمول، لأن فكرتها الأولى والنظرية التي انطلقت منها لم تكن تقصد ذلك، وإنما استهدفت الربح المادي والسيطرة الغابوية على بني البشر. فشتان إذن “بين (علم) هيأ للإنسان -فعلا- وحدته البشرية مع ذاته، ومع إخوته من بني الإنسان، وأتاح له -فعلا- أن يكون سيد العالمين، وخليفة لله (تعالى) في أرضه.. وبين (علم) سحق وحدة الإنسان الباطنية والجماعية، ودمر على بني آدم قدرته على تحويل الإنجاز العلمي إلى وسيلة لسعادة حقة في الأرض والسماء..
علم أحدث تناقضا مخيفا بين كدح الإنسان المادي الملموس، وبين مطامحه الروحية والأخلاقية النائية البعيدة..، شتان بين علم أخضع أعناق القوى المادية للإنسان، وبين علم أخضع أعناق بني آدم للقوى المادية… واليوم تنصب طاقات البحث والتجريب من أجل ابتكار أشد الأسلحة مضاء في قتل الإنسان ودماره…”(4).
ولما تسيطر هذه النظرة على المجتمعات العلمانية، وتتغلغل في عمق مؤسساتها، ويتبناها الصغير والكبير، والعامي والمثقف، والحاكم والمحكوم، ستؤول بدون أدنى شك إلى نتيجة واحدة، وهي نتيجة عرفتها المجتمعات والحضارات البائدة، وهي الخلل فالتراجع فالضعف فالأفول ثم الانقراض والعدم، أو بعبارة أخرى: السقوط هو القانون الحتمي للمجتمعات المادية، عندما تشتد فيها “موجة الفساد والإجرام والظلم، باسترسال المترفين في ملذات الحياة ومتعها الحسية والمادية.
وأما (متى) تقع النتائج؟ فإن تولى المترفون مع فسقهم وطغيانهم شئون المجتمع، فيرتقب بين لحظة وأخرى سقوط المجتمع وتدميره، وإن لم يتولوا شئونه، فربما يحتاج الأمر في ترتيب النتائج ووقوعها إلى شيء من الوقت، حتى تبلغ الموجة العاتية أشدها، وحتى يصل الظلم والإجرام إلى نقطة لا مفر من التغيير والسقوط بعدها”(5).
فالنتيجة واحدة وهي الهلاك والانتهاء، وقد تتراوح -هذه النتيجة- بين القريب العاجل وبين البعيد الآجل، بحسب الأيدي التي تحرك محركها، وتزرع محصودها، وتخطط لمستقبلها، وتنظم علاقاتها.
هذه إذن صورة مصغرة للمظاهر والنتائج التي عرفها الغرب العلماني والتي ضربته في عمق محركه وخرقته في إطار عجلته، فأفقدته السير المستقيم والرؤية الواضحة، فبدأ يسقط بالتدريج إلى أن وصل إلى درك القعر.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 2/155.
2- سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، ص:50.
3- ماذا خسر العالم؟ ص:235، (بتصرف).
4- تهافت العلمانية، ص:43.
5- الدين والدولة، ص:86.