من يسمع لأول وهلة بهذا العنوان يظن أن بوهندي قد خرج علينا مرة أخرى بفتوى جديدة من فتاواه الشاذة، لتضاف إلى سجله الحافل بالفتاوى الطاعنة في أعلام الإسلام والمخالفة للمعلوم من الدين بالضرورة، بكونه قد أباح التبني، إلا أن الأمر استعصى عليه هذه المرة، ولم يتمكن من إيجاد مخرج للمجلات والمنابر العلمانية التي تستأجره، لأن الآية في تحريم التبني صريحة وواضحة، ولأن هذه العادة الجاهلية حرمت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كعادته حاول تلبيس الأمور وخلط بعضها ببعض مدعيا أنه “ما أن تذكر كفالة الأطفال المهملين والمتخلى عنهم وغيرهم في أوساطنا العربية والإسلامية حتى تثار مجموعة من المقولات المشوشة والمخوفة في آن واحد، والمانعة للناس من الاهتمام بهذه الشريحة العريضة من الأطفال الضائعين في مجتمعنا، والذين لا تستطيع المؤسسات الاجتماعية المخصصة لإيوائهم أن تستوعب أعدادهم المتزايدة يوما عن يوم، ومن أهم هذه المقولات وأكثرها شيوعا قولهم: التبني حرام”.
علما أن الأصوات التي ترفع والحناجر التي تبح إنما هي للتنديد بالارتفاع الصاروخي والنسبة المهولة التي بلغها عدد اللقطاء وأبناء الزنا (أبناء الأمهات العازبات؟!)، ومن اصطلح على تسميتهم اليوم بالأطفال المتخلى عنهم نتيجة تبني النظرة العلمانية لمنظومة القيم والأخلاق، فما نعانيه اليوم هو إفراز حتمي من إفرازات المفاهيم العلمانية المقيتة في مجال الأخلاق والسلوك.
لقد كان عدد الأطفال المتخلى عنهم بالأمس القريب وبالضبط في السبعينيات من القرن الماضي بالمستشفى الإقليمي لمدينة تطوان لا يتجاوز عشرين طفلا؛ فيما أصبح إلى حدود 2004 يفوق المائة، واليوم أصبح مجموع الأطفال المتخلى عنهم على مستوى الصعيد الوطني يفوق 30.000 طفل كما أفادت ذلك بعض الإحصائيات.
وهو رقم مخيف حقيق أن ترفع الأصوات لأجله وتندد بالترحيل القسري لعدد كبير من الأطفال المغاربة إلى كل من سويسرا وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا وغيرها من الدول الغربية ليتبنوا من طرف النصارى واللادينيين والمثليين والمتعاشرين من غير زواج، خاصة أن الأجانب الذين يرغبون في تبني أطفال المغاربة أصبحوا يستعينون ببعض الجمعيات التي تعنى برعاية الأطفال المهملين بدعم من الأوروبيين لتسهيل تنقيلهم إلى الوجهة المقصودة، مما يعرضهم لخطر فقدان الدين والهوية والانتماء، إذ ثبت أن معظم المتكفل بهم يتم تنصريهم فيما بعد.
فلماذا يصر “فضيلة المفتي” على أن يغض الطرف عن كل هذه الأمور الواضحة الجلية، ويشن حربا تمويهية لا مبرر لها على من يخلطون بين مفهومي الكفالة والتبني؟
إن المغاربة واعون تمام الوعي بالفرق الشاسع بين الكفالة والتبني، فمنذ بزوغ فجر الإسلام على هذا البلد والمغاربة يبادرون إلى تربية الأيتام والإحسان إليهم، وإحاطتهم بالرعاية والتربية الصالحة سواء في بيوتهم أو غيرها، مسترشدين في ذلك بقول الله تعالى: {..وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة، وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم كافل اليتيم بمرافقته وملازمته في الجنة، فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا -وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً-” البخاري.
والأمر نفسه بالنسبة للقيط أي المنبُوذ في الطريق أو الشارع أو باب المسجد أو غيرها من الأماكن والذي يتخلى عنه في الغالب بعد الولادة، فالمغاربة منذ القديم يلتقطونه وعيا منهم بما قرره الشرع الحنيف من أحكام تخص اللقيط، وكونه فرض كفاية: إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ولو تركه جماعة أثموا مع إمكان أخذه لأنه آدمي محترم، وفي التقاطه إحياء نفسه فكان واجباً، كإطعامه إذا اضطر، وقد دل على ذلك عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ..) (البخاري ومسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وَلا يُسلِمُهُ” يقال: أسلم فلان فلاناً: إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يَحْمِهِ من عَدُوِّه..” (فتح الباري 5/97)، وهذا فيه دليل على مشروعية التقاط المنبوذ، كما أفاده الحافظ ابن كثير في إرشاد الفقيه 2/97.
أما التبني والذي هو اتخاذ الرجل يتيماً من الأيتام فيجعله كأحد أبنائه الذين هم من صلبه ويُدعى باسمه، كما هو الأمر اليوم في الغرب تماما، فقد منعه الشارع الحكيم بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، فقد منعه الإسلام حفظا للأنساب من الاختلاط والضياع، وتوعد من انتسب إلى قوم ليس منهم بالعذاب والعقاب فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادَّعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار”. رواه البخاري ومسلم، (ومعنى كفر: أي جاء بأفعال الكفار لا أنه خرج من الدين).
إن مفتي مجلات تطبيع العري داخل المجتمع المغربي لم يتفوه بهذا الكلام جزافا، أو سطره عبثا، وإنما قال ذلك بعد أن استدعته الجمعية المغربية للآباء الكافلين إلى الندوة التي نظمتها بمدرج المكتبة الوطنية حول “قانون الكفالة، أي حماية للكافل والمتكفل به؟”، والطرح الذي قدمه في الندوة لفظا كرره في مجلة “سيتادين” نقلا، إمعانا في التضليل والتلبيس، وصرفا لأنظار الناس عن الاشتغال بالأسباب الحقيقية وراء استفحال ظاهرة أبناء الزنا ومعضلة الوالدات من النساء من الزنا، اللائي يصر العلمانيون على تسميتهن بـ”الأمهات العازبات”إمعانا في تطبيع الفاحشة داخل المجتمع المغربي المسلم.
فلماذا لا يتطرق بوهندي أبدا إلى مناقشة أسباب الظاهرتين؟
بكل بساطة لأنه سيضطر إلى رفع النقاب عن تقاسيم وجه العلمانية الشهوانية، التي يخلص لها أيما إخلاص، والتي تنظر إلى منظومة القيم والأخلاق والتدين على أنها تحول دون التقدم والازدهار، وتكرس دونية المرأة، في حين تشهد الحقائق التاريخية والاجتماعية أن تلك المنظومة هي صمام الأمان المانعة من استفحال المعضلتين، والكفيلة بحلهما وعلاج ما أفسدته العلمانية الأوربية المستوردة في بنيتنا الدينية والاجتماعية.