الغزو الفكري.. ولعبة الألفاظ والمصطلحات.. رشيد مومن الإدريسي

لا تقتصر الأخطار التي تواجه المسلمين على سقوط بعض أراضي أهل الإسلام تحت العدوان الغاشم..، ولكن الخطر الأكبر هو (الغزو الفكري) الذي يعم الأقطار ويفسد الأفكار..، هذا الغزو الذي ابتدأ منذ زمن بعيد، غزوا مصاحبا في كثير من الحالات للغزو العسكري، وفي أكثرها ممهدا له..، غزو يدخل النفوس والقلوب ويرخي العزائم ويمزق الأمة في عواصف من تيارات متصارعة..، غزو مهد كثيرا لمسلسل التنازلات في ميدان الفكر والمعرفة..، والسياسة والإعلام..
إن أخطر ما يواجه الإصلاح الحقيقي اليوم هذه (الفتنة الفكرية) التي روج لها أعداء الدين، وانخدع بها ودعا إليها كثير من المسلمين، مما وفر على من يكيد لهذه الأمة المحمدية بعض الجهود والجنود، كل ذلك تحت شعار التغيير والتطوير..، والتجديد والتنوير..
نعم كان الصوت الأقوى هو صوت الإسلام والمسلمين، لكن بسبب (الغزو الفكري) و(البعد عن الدين) في عموم المجالات والميادين أخذت الحالة تتغير، وأخذ صوت الزخرف الغربي يتعالى شيئا فشيئا حتى أصبح دويا عاليا ممتدا دون توقف وبجرأة وتحد وإصرار مبين مع التذكير أن العاقبة للمتقين1.. ولذا فـ”إن الأحداث الكبرى، والتحولات الثقافية في المجتمعات، يسبقها في الغالب مرحلة (نشر الأفكار)”2 الهدامة التي يتزعمها أعداء هذا الدين، ومن فُتن بزخرفهم من أبناء المسلمين..
ومن عظيم الأخطار التي يجب أن يُنتبه لها عند هذا البيان، أن أرباب (الغزو الفكري) قد مضوا في مسلكهم هذا على نهج مدروس، بعيدا عن الارتجال وردود الفعال..
وفي المقابل نجد الصف الإسلامي غلب عليه التمزق وابتلي بالتفرق بل يزداد ذلك كلما اشتد الانحراف عن الطريق السديد، والخوض في ضجيج الشعارات، مما تولد عنه مجرد الارتجال وردود الفعل في طرائق الدعوة وهو أمر أكيد، بدلا من سلامة النهج وحسن التحديد بعيدا عن التبديد..، وفق طريق السلف الصالحين الذي بالأخذ به يأتي من الله النصر والتأييد..
وفي بيان لحقيقة الفكر وما يتعرض له من غزو، يقول الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: “إن (الغزو الفكري)، مصطلح حديث، وهو يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى، أو التأثير عليها، حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر من الغزو العسكري، لأن الغزو الفكري: ينحو إلى السرية، وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده، والوقوف في وجهه، حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته:
أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه، وهو داء عضال، يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معان الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به، لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه، ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا، وإفهامها سبيل الرشد شيئا عسيرا، وهذا الغزو يقع بواسطة المناهج الدراسية والثقافية العامة، ووسائل الإعلام، والمؤلفات الصغيرة والكبيرة، وغير ذلك من الشؤون التي تتصل بالأمم، ويرجو العدو من ورائها صرفها عن عقيدتها والتعلق بما يلقيه إليها”3.
ومن صور هذا الغزو الفكري ما اصطلح عليه بـ(لعبة المصطلحات) إذ الألفاظ المجملة -فضلا عن المصطلحات الفاسدة- جرعة سحرية يتناولها فرد أو جماعة، فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى أخرى -إن لم تفقده التفكير أصلا-، وقد يتسلل هذا المصطلح أو اللفظ إلى العقل العام دون إدراك خطورته، كأن تطرحه جماعة أو هيئة صاحبة مصلحة أو هوى في شيوعه وانتشاره، فيلتقط ويستعمل ويشيع، ولا يمضي وقت قصير حتى تضاف إليه الشروح والحواشي الباطلة، وتظهر انعكاساته الضارة عن طريق تزيينه وزخرفته، فيبدأ يعطي ثماره: فكرا وافدا.. وثقافة هجينة..، وصدق من قال: أن “التسمية قد تكون أول أمرها كلمة سهلة، وفي نهاية أمرها تكون ملة ونحلة”4.
ولما كانت أكثر هذه الألفاظ والمصطلحات فكرية وإعلامية كان فريستها كثير من المثقفين ومن يدعي حسن الفكر والفهم، بل وقع في شراكها بعض المتفقهة من الدعاة والمشتغلين بالعلم، فصار هؤلاء باسم الدعوة والمصلحة والثقافة والسعي لإقامة حضارة الأمم يتعيّشون على بعض هذه المصطلحات طلبا للمصلحة المتوهمة في كثير من الأحايين، فتبدى الوهم، “فلنحذر جميعا لعبة المصطلحات، ولنكن على وعي بتداعياتها الماكرة، وانحرافاتها المقصودة”5.
من هذه المصطلحات مصطلح (الديمقراطية) حيث “ما زال الكثيرون يحاولون ربطه بالشورى.. مع أن هذه الاصطلاح اليوم بالنسبة لعامة الناس هو شعار يمثل الحرية، وحسن الإدارة الناجحة ماديا، وما يتوهمونه من حقوق الإنسان، إلى غير ذلك، ولكنهم لا يدركون المعنى الفكري للديمقراطية وأسسها وأهدافها6، ولا يدركون سبب إصرار الغرب على تبني الدعوة إليها ولو بالشعار في صفوف المسلمين “7.
ومن هذه المصطلحات -كذلك- مصطلح (الرأي والرأي الآخر)، فـ(الرأي) “يحتاج الناظر فيه إلى تفصيل، وكذلك (الآخر): يدخل فيه الكافر، والمنافق، والمبتدع، وآرائهم منها ما يكون مخالفا للمحكمات، ومنها ما هو من شؤون الدنيا وهو رأي صالح يمكن الاستفادة منه، ومنها ما هو رأي فاسد، فلماذا إذا التعميم؟!”8.
ومن هذه المصطلحات -أيضا- مصطلح (المساواة)، الذي يستعمل كثيرا بدل لفظة (العدل) وفي ذلك قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “من الناس من يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يقال: مساواة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين، والحكمة تقتضي التفريق بينهما.
ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟! سووا بين الذكور والإناث! حتى إن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد، حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد… وهلم جرا.
لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه9، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة”10.
إلى غير ذلك من المصطلحات والألفاظ التي لا يتسع المقام لذكرها ولا لبسط الكلام عنها تداولها الناس كثيرا في الصحافة والكتابة، وفي مجالات الفكر، وفي المجلات والندوات والحوارات، إلاَّ أن عموم الناس غفلوا والبعض يتغافل عن أن هذه الميادين كلها تؤول إلى فساد وإفساد للفكر ودروبه مما يوقع في (التجنس الفكري) في حالات منها:
حين تُزيف الحقائق والأشياء والمسميات..
حين نبتعد عن الألفاظ الشرعية والعبارات الشريفة ومعانيها11..
حين نتجنب لغة العلم المحقق ونهرول في غير المسعى، ونتلقف كل قول مزوق..
حين نقع في التصريف والتحريف12.. ونستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير..
قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: “إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بني على هذه المقدمات الكاذبة”13.
ولا يُتذرع في هذا المقام بقاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح” لأن المصطلحات إذا كانت دالة على معان مخالفة لما جاء به الشرع فيكفي هذا دليلا على بطلانها ووجوب اطراحها لأنه “إذا جرى الاصطلاح على ما يخالف المعنى الشرعي فهو مدفوع من أصله”14، وفي هذه الحالة: لا معنى لقولنا: (لا مشاحة في الاصطلاح) حيث أن المشاحة واقعة لا محالة.
إضافة إلى أنه “لا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم منها”15، كما أن “الاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة”16، فتأمل ولا تعجل، وبالعلم تجمل.
……………………..
1. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول” إعلام الموقعين 2/178.
2. “هل يكذب التاريخ؟” لعبد الله بن محمد الداوود ص:107.
3. نقلا عن كتاب “الإرهاب الفكري: مفهومه، بعض صوره، سبل الوقاية منه” لخالد القريشي ص:29-30.
4. رفع الحجاب عن الفرق بين دعوة أهل السنة ودعوة أهل البدع والأحزاب لأبي الحسن المأربي وفقه الله ص: 4 بتصرف يسير.
5. بصائر دعوية لقطب الريسوني ص:38.
6. وفي خصوص ذلك قال أحدهم: “الديمقراطية هي السماح لكل المسافرين بقيادة القطار لتكون النتيجة المحتومة الاصطدام فالكارثة” الشرق الأوسط العدد 4413 الجمعة 11/6/1411هـ، الموافق للتاريخ (الإفرنجي) 28/12/1990م.
7. “الشورى لا الديمقراطية” لعدنان علي رضا النحوي ص: 11/ الطبعة الخامسة/بتصرف.
8. “موقف أهل السنة والجماعة من المصطلحات الحادثة ودلالاتها” لعابد السفياني ص:50، وقال عقب ذلك: “ثم إنه لا تلازم بين الاستفادة من رأي الآخر إذا كان حسنا في أمور الدنيا وبين قبول انحرافاته، وهل معنى ذلك أنه يجب فرضه على الآخرين؟ أو معنى قبوله التعايش مع عقائده ومناهجه وقوانينه ومذاهبه وانحرافاته؟”.
9. “نحن لسنا بحاجة إلى إطلاق شعار (العدل) فحسب، وكل المجرمين في الأرض يطلقونه…، نحن بحاجة إلى أن نطلق (نهج العدل).. ، كما قرره الكتاب والسنة لا مجرد شعار..” تمزق العمل الإسلامي لعدنان علي رضا النحوي ص:38-39 بتصرف.
10. شرح العقيدة الواسطية 1/229.
11. في طبقات المفسرين للداودي رحمه الله 2/37، في ترجمة أبي عبيد، قال: (مثل الألفاظ الشريفة، والمعاني الظريفة، مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة. وقال: إني لأتبين في عقل الرجل أن يدع الشمس ويمشي في الظل).
12. قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله: “التحريف: تبديل الحق بالباطل بتغيير في اللفظ، أو في المعنى” الدين الخالص 3/261.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *