جوامع الكلم في القرآن الكريم حسن بنعباس

الكلمات المشتركة الدالة على جميع محتملاتها في آن واحد:
ومن الشواهد على ذلك ما يلي:
1ـ قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج الفرقان:25.
ففعل “مرج” يأتي في اللغة بمعنيين:
ـ المعنى الأول: مزج وخلط.
ـ المعنى الثاني: أرسل.
وقد نبهت هذه الآية على علامة من علامات الخلق والتدبير الحكيم في الماء، فقد تحدثت عن الماء العذب الحلو، والماء الملح الأجاج.
وذكرت أن هذين الماءين بحران عظيمان خلقهما الله عز وجل لمنافع الحياة والناس.
وكل من هذين البحرين ينبغي لتحقيق المنفعة منه أمران:
الأول: أن يظل على نسبته المزجية التي جعله الله عليها.
الثاني: أن يظل مرسلا، له قابلية السيولة والاندفاع والسريان في الأرض، ليؤدي وظائفه للحياة والأحياء.
فالماء الحلو فيه عناصر مختلطة ممتزجة، وقد مزجها الله بمقتضى حكمته، ضمن نسب من العناصر ملائمة لحاجات الحياة والأحياء، وقد أرسله الله في الأرض، فاندفع يؤدي وظائفه على أحسن وجه وأتقنه.
والماء الملح له نسبة مزجية مضافة مخلوطة فيه، وقد أرسله الله في البحار، فاندفع يؤدي وظائفه على أحسن وجه وأتقنه.
بعد هذا البيان المقتبس من النص ومن الواقع، نلاحظ أن البيان القرآني استخدم كلمة “مرج” للدلالة على معنيين:
الأول: معنى خلط العناصر، حتى تكونت ماء حلواً، أو ماءً ملحاً أجاجاً.
الثاني: معنى إرسال الماء في الأرض، بوصفيه: العذب الفرات، والملح الأجاج، وهذا ظاهر بما في الماء من سيولة قابلة للتدافع المتلاحق، كأن مرسِلا أرسله ليؤدي وظائفه التي أرسل من أجلها.
أمامنا هذان المعنيان، فما نختار في التدبر؟
ـ أنقتصر على معنى المزج؟ أو على معنى الإرسال؟
ـ أو نحمل اللفظ على معنييه معا، والواقع يؤيد ذلك، والفكر لا يمنع منه، واللغة تساعد على ذلك في استعمالات كبار الأدباء والبلغاء؟
الأخير هو الأجدر بالتدبر الأمثل، والله أعلم( 1).
2ـ قوله تعالى: والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس، التكوير:81.
كلمة “عسعس” تأتي في اللغة بمعنيين:
ـ المعنى الأول: أقبل ظلامه، ويكون هذا أول الليل.
ـ المعنى الثاني: أدبر ظلامه، ويكون هذا آخر الليل.
والنص يوجه بالقسم إلى آية من آيات الله في الليل، وهذه الآية عند أول الليل في إقباله، وعند آخره مع انصرافه ذات صفة متماثلة.
واختيار كلمة “عسعس” الدالة على المعنيين يشعر بأن النص يلفت النظر إلى إقبال الليل وإدباره معا، لا إلى واحد منهما فقط، فحمل اللفظ عليهما هو الأحق بالتدبر.
ففي كل منهما آية من آيات الله عز وجل، وهما آيتان مترابطتان في الدلالة على نظام واحد في حركة الأرض حول نفسها تجاه الشمس، والتنبيه عليهما معا يرشد ضمنا أهل البحث العلمي إلى دراسة هذه الظاهرة لمعرفة سببها المنبه على دليل الإتقان في الكون، الهادي إلى الإيمان بالرب الخالق الحكيم العليم القدير(2 ).
3ـ قوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا، الإسراء:16.
فلفظ “أمرنا” لفظ مشترك، له عدة معاني.
منها “أمر” من الأمر، نقيض النهي، وهذا هو المشهور، والأغلب استعمالا.
ومنها “أمر” بمعنى كثر “بالشد”، قال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته. وقال أبو زيد: مُهرة مأمورة، هي التي كثر نسلها، يقولون: أمر الله المُهرة، أي كثر ولدها.
ومنها “أمر” بمعنى أمر، بشد الميم، يقال: أمره، أي جعله أميراً.
وهذه المعاني الثلاثة للأمر قد فسرت بها الآية.
فعلى المعنى الأول، أخرج الطبري بسنده عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:”أمرنا مترفيها” قال: بطاعة الله، فعصوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية…”، قال: أمرنا مترفيها بحق فخالفوه، فحق عليهم بذلك التدمير. وهذا التفسير مروي أيضا عن سعيد بن جبير.
وعلى المعنى الثاني، قال العوفي عن ابن عباس: “وإذا أردنا أن نهلك…”، يقول أكثرْنا عددهم -أي المترفين-، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة والزهري. ويؤيد هذا التفسير قراءة الحسن بالمد، ويؤيده أيضا حديث زينب المتفق عليه حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون، قال: “نعم إذا كثُر الخبث”.
وعلى المعنى الثالث، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: “أمرنا مترفيها…” يقول: سلطنا -أي أمرنا بالتشديد- أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله تعالى: “وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها” الأنعام:123. وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
ويؤيد هذا قراءة التشديد “أمرنا” أخرجها الطبري عن أبي عثمان النهدي وأبي العالية ومجاهد، وأخرج ابن مجاهد عن أبي عمرو البصري: أنه قرأها بالتشديد، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بها.
ومن تدبر سياق الآية، وتأمل في هذه المعاني الثلاثة التي دل عليها هذا اللفظ المشترك، ومطابقتها لوجوه التفسير الواردة عن ابن عباس وغيره؛ فسينتهي به النظر إلى إمكانية الجمع بينها، وهذا من دلائل إعجاز القرآن الكريم، فيكون معنى الآية عند ربطها بما قبلها: أن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه، وقضى أن لا يعذب قرية إلا بعد إقامة الحجة على أهلها؛ بأن يبعث إليهم رسولا، يأمرهم وينهاهم، فإذا كتب الله هلاكهم؛ جعل لذلك سببا؛ بأن يكثر المترفون فيها؛ حتى تكون لهم الغلبة والسلطان؛ فيكثر فسقهم وعصيانهم لأمر الله تعالى، فتحق عليهم سنة الله، ويحل عليهم العذاب( 3). والله أعلم.
————-
(1)ـ “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل” ص: 575 ـ 576
(2)ـ نفسه ص: 577
(3)ـ “جوامع الكلم وشواهد الإعجاز” ص: 133/135

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *