كنت كلما نظرت إلى جبل أو بحر أو شجر، أو سمعت عن زلزال دمَّر قرية، أو ريح صرصر اجتثت شجرا، أو إعصار جعل ما على الأرض صعيدا جرزا، أستصغر شأن هؤلاء الذين يحملون لواء مغالبة دين الله ويجتمعون على حرب المنتسبين إلى صراطه المستقيم، وصدِّ الإنسانية عن الانتفاع بالحياة الطيبة في ظل مناخه الفاضل العادل، وبعد الاستصغار لابد من حصول استشراف المغلوبية لكل واهم من أصحاب القلوب الصلدة الذين نراهم اليوم يعيشون الحنق فيترجمونه إلى الجنون والحمق.
مساكين هؤلاء الذين ولدوا على فطر سوية قد ركزت فيها ربوبية الرب وألوهية المألوه، ولكن خيبة الكسب المارق أرجعتها بانتكاس إلى جاهلية ما قبل الإسلام بل إلى ما هو أشد من ذلك، إذ كان العربي الذي عاش جاهلية ما قبل الإسلام يقف مع خطاب الوحي وقفة لم يمار معها في قضية عجزه وفقره وحاجته، مقابل إقراره بقدرة الله التي لا يعجزها شيء في الأرض والسموات، وغناه سبحانه وصمديته جل جلاله، وهذا قرآننا ناضح بتناول هذه الوقفة وهذا الإقرار العقدي في باب الخلق والملك والتدبير، قال الله سبحانه وتعالى: “قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ“، فأين هذا من تجليات المعاصرة وجاهلية الحداثة المادية الحائفة، التي ألّه فيها صناع الفرجة الحداثية الطبيعة والعلم والعقل والحرية، وغرّهم في ربهم غرور إطلاق ملكة الاختراع وتكنولوجيا المكننة والاتصال.
واسمع إلى رائد من رواد المادية والإلحاد جوليان هكسلي في كتابه “الإنسان في العالم الحديث” وهو يقول: “إن الإنسان قد خضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة، فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن تم يصبح هو الله”، نعم لقد كانت المشكلة عند الإنسان الذي عاش جاهلية ما قبل الإسلام في تنكره وجحوده وعدم قبوله بمألوهية الإله الواحد، دون أن يجعل بينه وبين هذا الإله الذي هو في السماء أندادا وأربابا متفرقين في الأرض، يشفعون له ويتزلفون لمطالبه ويستغفرون لذنوبه، لكننا لم نسمع ولم يصلنا من المحفوظ التاريخي أن كريما من العرب، أو معربدا أو صعلوكا أو شاعرا ربّب الطبيعة وعزا لها العطاء والمنع والرضا والغضب، كما هو حاصل اليوم مع عمار المدنية الحديثة؛ أولئك العمار الذين منّ الله عليهم بدليل الرحلة ومبراس الهدى، لكنهم آثروا سلك ظلامية الكفر وسواد العناد.
ولك أن تسمع لشاعر جاهلي من أصحاب المعلقات وهو يقول:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله … ولكني عن علم ما في الغد عم
ثم ألق السمع كرة أخرى واسمع للشاعر الجاهلي المعاصر إيليا أبو ماضي، وهو يتخرص شعرا ويقول: “جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت، ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت، وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت، كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري..”.
ولك أخي بعد إلقاء السمع أن تقارن، بل قد نستدرك عليك ونكفيك مؤنة المقارنة، ولكننا نسألك تجردا واحتمالا أن لو كان للشاة قرناء أو سائمة جلحاء لسان نطق، أكانت تتجرأ نبسا بحديث من جنس ما قاله هذا المتخرص المعاصر؟
ثم قفّي مرسلا بصرك لتقرأ ما كتبه جوليان هكسلي في موضع آخر من كتابه السالف الذكر: “إن الإنسان كلما ازداد علما، ارتفع في حس نفسه درجة، وهبط الإله في حسه في ذات الوقت درجة، حتى يأتي اليوم الذي يخلق فيه الإنسان الحياة، فيصبح هو الله”.
وبعد هذا، فإن كنا كفيناك مؤنة المقارنة، فلك أخي أن تستغرب وأن تتعجب من زيف هذه المدنية التي تساق لها اليوم سوقا لتلج سلخانتها، حيث المطلوب منك أخي المسلم أنت في العالم وحدك؛ فقد لا يطلب لهذا المسخ والسلخ بودي ولا سيخي ولا هندوسي، بل أنت المقصود لانتسابك الوثيق ووصلك العميق بالدين، الذي ارتضاه الواحد الأحد سبيلا إلى وعده ومزيد رضاه سبحانه وتعالى، لك أخي أن تستغرب على قدر درجة هذا الانتساب ودرجة الإيمان موضوع ذلك المطلوب الذي تساق إليه سوقا؛ مطلوب قطع صلتك بالله، تلك الصلة التي لا عوج فيها، والبراءة من هذا الدين الذي يفرمل عجلة هرولتك في مسعى ملذات وزينة هذه الحياة الدنيا، ويعطل فيك ملكة الإنتاج والإبداع، ويقتل فيك روح التحرر والتمرد على الطابوهات والمحرمات، وها هو اليوم ربما يريد أن يسوس أمور دنياك فيسلط عليك سوط التعزير وصارم الحدود العادمة لنسمة الحياة فيك.
نعم أخي رفقا بك، تصرف اليوم البلايير من العملات الصعبة حتى تعود إلى رشد حظيرة هذه المدنية الزائفة والحياة المقيتة، التي من اليقين لو جربتها الأنعام لرغبت عنها وأنفتها وخاصمتها خصومة لجوج، وليس الكلام من باب الرجم بالغيب، ولكن ربنا جل جلاله لما شبّه الذين يأكلون ويتمتعون من أهل الكفر بالأنعام، استدرك عدلا وهو العدل الحكيم بزيادة ضلالة من الذين كلفوا فضيعوا الأمانة بظلم وجهل على الذين لا تكليف عليهم من المسبحين الذين لا نفقه تسبيحهم.
وإننا وكما نعلم استشرافا لوعد الله الصادق الذي وعد أهل الصدود وتوعدهم بأن تكون تلك الأموال المستثمرة في الحرب على الله ورسوله حسرة من تجلياتها الهزيمة وتولي الدبر، ولنعلم أيضا في عالم المادة والحس أن زلزلة واحدة، أو ريحا صرصرا عاتية، أو بلاء كونيا واحدا، لكفيل بأن ينقل البشرية من العناد والصدود إلى جنة الإنابة ونعيم التزام الحدود، وحينها يطيب للنفوس المنيبة أن تتذوق في باب الفروق البون بين الكبت والضبط، وبين فطرة الرغبة وصبغة القيد، دور ديننا العظيم بين هذا وذاك في باب الترشيد وخلق التوازن، الذي عنوانه في المباح قوله جل جلاله: “وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ“، وضابطه بين رغبة الدنيا وقيد الآخرة قوله سبحانه: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا“، وطبيعته في حفظ وسلامة العلاقة بين الفرد والأمة قول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا يمرون على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في مكاننا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا“، فأين هذا من دعوى القوم وبهتانهم الذي يرمى به ديننا، وزيفهم الذي يتربص بنا الدوائر باسم القيم العليا وحقوق الإنسان وحرية المرأة وحق الصغير وحق تقرير المصير؟
ثم متى كان الزهد في الدنيا والإعراض عن أمورها بالكلية من مهمات ديننا، أو مما دعا إليه إسلامنا العظيم؟
لقد كانت رسالة الإسلام أن تحيط شواغل الحياة الدنيا وروابط الدم والمال والشغل الشاغل بتجارة العرض والطلب المطلقين بضوابط الشرع وأحكامه، وأن تنحو بهموم المسلم إلى المستوى الذي تكون معه وتصير به هذه الحياة الدنيا ليست هي مبلغ العلم ولا غاية الهم ولا منتهى الحلم، وألا تكون هذه الزوائل على رأس قائمة ضرورات السعي والمشي في مناكب الأرض، وليتم بعد هذا الضبط التحول الأعظم الذي يتم بموجبه الرضا بالله ربا وبالإسلام ديننا وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبيا ورسولا، وما يلزم من هذا الميثاق الغليظ، وما يترتب عن حلاوة ذوقه من انقياد وطاعة وترك وبراءة من كل باطل وعبثية من جنس قول ذلك الشاعر الجاهلي المعاصر: “لست أدري”.