إن كان الجنيد يخفي ما تم له كشفه عن طريق الذوق الصوفي من حقائق ما ورائية، محورها حقيقة الوحدانية، فضلا عما يستوجبه الإسهاب من وقت لتفسير الخواطر والواردات لأصحابه، خاصة وأن إدراكهم لما أدركه مشروط بانتهاج نفس نهجه، فهل ما تاقت إليه نفسه حتى ناله من الضروري الذي لا يتم دين المؤمن إلا به؟
أم إنه من الحاجي أو من التحسيني الذي يتوج مقاصد الشريعة عند كل راغب في إحاطة دينه بسياج من التحرج مخافة الوقوع في المحظورات والآثام؟
أم إنه من بين الأفكار التي لا يتوقف عليها الامتثال لأوامر الدين ولنواهيه؟
لو كان فيما أدركه ذوقا لا عقلا ونقلا، أي نفع للمؤمنين، ما أجهد نفسه كي يخفيه حتى لا ينتهي إلى من سيحاسبونه عليه. في حين أن العلم المتصل بالدين في كل الأحوال، تنبغي إشاعته والترويج له، حتى يستفيد منه أكبر عدد من المؤمنين، إذ ما يدركه العلماء باجتهادهم من حقائق الدين، عائد في البداية وفي النهاية إلى ما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى ما بينته سنة هذا النبي الأمين طوال الفترة الزمنية التي كان يتلقى خلالها وحيا من ربه.
قال عز وجل: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” له صلة بالدين إلا وأنزلناه على المجتبى الذي أردناه سراجا منيرا ورحمة للعالمين. يعني أنه لا حرج على من يبين للناس ما يلزمهم قوله وفعله وتركه، لكن الحرج يحيط بمن يكتمون ما أنزله الله في كتابه المبين دون أن يفصحوا عنه إن كان غير ضار بمتلقيه. أو لا يتلون من ضمن ما يتلونه قوله سبحانه: “إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون”.
فما يحرص المتصوفة على إخفائه، إما يكون من البينات والهدى، فيكون عليهم كعلماء مفترضين أن يظهروه وأن لا يكتموه. وإما أن لا يكون منهما.
عندها يكون توغلهم في الزندقة قد وصل إلى أقصى مدى يمكن تصوره!
فلننكر إذن على الجنيد نتائج مجاهدة الكشف والمشاهدة عنده. وهي نفس النتائج التي أنكرها القاضي عياض على الغزالي فكان أن كفره كما تقدم!
إنما ماذا عن المسلك أو عن الطريقة التي سلكها الجنيد حتى تتناقض الحقائق الصوفية التي حصل عليها تمام التناقض مع مقاصد الشريعة الثلاث: الضروري، والحاجي، والتحسيني، وإلا لوجد من الشجاعة ما يكفيه لمواجهة إخوته في الدين بما اعتبره هو من صميمه؟
تحدثنا عن أسس طريقة الجنيد، ووجدناها أربعة: متابعة السنة، ومراقبة الباطن، واختيار الصحو دون السكر، ورياضة النفس بالخلوة. ثم ناقشنا هذه الأسس، واستحسنا من بينها “الاقتداء بالمختار في الأقوال والأفعال”. و”مراقبة الباطن والظاهر على حد سواء”. ووقفنا كثيرا عند “السكر والصحو”.
وأظهرنا عيوب هذا التقسيم الذي يدافع عنه الجنيد. يكفي تبريره المستميت لما يصدر عن سكارى الواردات والخواطر وهم في حالة سكر! وميزنا بين أنواع من الغيبة: غيبة النائم، وغيبة الطفل، وغيبة المجنون، بحيث إن هذا الثالوث الغائب عن وعيه، والذي ينتظر منه عودته إليه بنص حديثي شريف، لا يسأل عما يصدر منه. أما الغائب عن وعيه لتناوله المخمر من المشروبات، أو لنوع من المخدرات، أو لاستسلامه لرباعي الجوع والسهر والصمت والخلوة حتى أصبح ثملا غير واع بما حوله وبمن حوله، تحت حجة أنه فني في الواحد الذي لا وجود لغيره في العالم برمته. فإنهم جميعهم مسؤولون في حالتي السكر والصحو، أو في حالتي الغيبة والحضور!
وكتقوية لاتهام الجنيد بالابتعاد عن سنة المختار ما نجده في “كتاب اللمع” لأبي نصر السراج ضمن باب حول كلمات شطحيات تحكى عن أبي يزيد البسطامي، مع تفسير الجنيد لطرف منها! مما يدل على أن طريقته ليست هي -كما يتوهم المغاربة- قائمة على الكتاب والسنة. فإن اجتهد الرجل في تأويل كلام البسطامي حال سكره وصحوه، فإنه يدرك خطورة ما يصدر عمن سلكوا نفس مسلكه، وتشبثوا بنفس قناعاته، رغما عن كونه يفضل من يتحكمون فيما يحل بهم من أحوال، على من تتحكم فيهم هذه الأحوال. ولكنه لا ينكر ما يصدر عن هؤلاء وأولئك ما داموا كلهم رفقاء نهجه الصوفي! فقط يريد اللجوء إلى التقية مخافة منه على إخوانه من نفس مصير الحلاج.
قال الجنيد: “الحكايات عن أبي يزيد مختلفة. والناقلون عنه فيما سمعوه مفترقون. وذلك والله أعلم لاختلاف الأوقات الجارية عليه فيها، ولاختلاف المواطن المتداولة بما خص منه، فكل يحكي عنه ما ضبط من قوله ويؤدي ما سمع من تفصيل مواطنه”. يعني أن من ينقل كلام البسطامي فريقان: فريق ينقل عنه حال صحوه. وفريق ينقل عنه حال سكره. والجنيد يريد منا أن لا نلقي بالنا لما ينقل عنه وهو سكران!!!
وأضاف الجنيد: “أما ما وصف في بدايات حاله (= حال البسطامي) فهو فيه قوي قد بلغ منه الغاية. وقد وصف أشياء في علم التوحيد صحيحة. إلا أنها بدايات فيما يطلب منها المرادون لذلك. وهذه الكلمات التي أريد أن أذكرها ليست هي مما يكتب في المصنفات! لأنها ليست من العلوم المبثوثة عند العلماء (= وما فائدتها؟). لكن رأيت الناس قد أكثرو الخوض في معانيها. فواحد قد جعله حجة لباطله. وآخر قد اعتقد في قائلها الكفر. والجميع قد غلطوا فيما ذهبوا إليه”!
فإن نحن ناقشنا أسس طريقة الجنيد، وما أسفر عنه اشتغاله على تلك الأسس أو بها، فإننا ناقشنا كذلك شروط طريقته الثمانية فتأكد لدينا تناقض بعضها مع السنة النبوية، واستحالة القبول ببعضها الآخر كدوام الصوم، ودوام ربط القلب بالشيخ، وترك الاعتراض عليه، بحيث يصبح انتهاج نهجه الصوفي وصمة لن يزيلها من طبعت على جبينه من أدعياء الزهد والتبتل؛ غير توبة نصوح عمدتها الإقرار بأنه لا طريق في التدين أفضل من طريقة المختار صلى الله عليه وسلم التي هي سنته.
ومتى استهجنا نتائج ما أدت به إليه طريقته! ومتى استبعدنا أن تكون أسسها كلها مسنونة! ومتى سقط جل شروطها من ميزان النقد. فما الذي تبقى من الجنيد حتى يجعل المغاربة يدينون له بالولاء والتقدير والاحترام؟
بقيت نتف مما نسب إليه منثورة في أكثر من مصدر، وفي أكثر من مرجع. إنها -على سبيل المثال- لدى القشيري في “رسالته” ولدى السلمي في “طبقاته”. ولدى الكلاباذي في “التعرف لمذهب أهل التصوف”. ولدى الشعراني في “الطبقات الكبرى” له.
ونرى تقديم بعض من نتفه تلك كما وردت عند القشيري على التوالي:
1- قال: “الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام”.
– كلام لا غبار عليه. تحدث صاحبه عن طرق، لكنها جميعها مغلقة أمام أي راغب في السير عليها كدروب غير مطروقة. والدرب المطروق، أو الطريق الواصل، واحد لا ثاني له ولا ثالث! إنه السنة. والسنة لا توجد خارج اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته!
غير أن لنا على كلام إمام المغاربة المزعوم في السلوك الصوفي ملاحظتين:
أولا: إنه هو نفسه لم يكن مصيبا في الاقتداء بالشفيع المشفع. فلا أسس طريقته مقبولة في الجملة! ولا شروطها متطابقة كلها تمام التطابق مع السنة النبوية! ولا الأسرار التي قادته طريقته إليها مما “ينفع الناس ويمكث في الأرض”!
ثانيا: “الطرقيون الكثر بين ظهرانينا الآن، دليل على تعدد الطرق! ولا طريقة واحدة من ضمنها يتعبد أتباعها كما كان صلى الله عليه وسلم يتعبد! مما يعني أنه، لا الجنيد اقتفى أثر الرسول! ولا الطرقيون الضالون عندنا اقتفوه!
2- قال: “من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى في هذا الأمر، لأن علمنا هذا (= التصوف) مقيد بالكتاب والسنة”.
ونحن في المغرب لدينا صوفيون لهم نصيب من العلم بالدين لا يستهان به. ولكنهم كالجنيد والغزالي منحرفون عن النهج القويم الذي عليه الحجة البالغة وحده! يكفي اشتغالهم في الأذكار الفردية والجماعية بما لم يشتغل به قدوتنا كمسلمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم!
كما أن لدينا صوفيين يحفظون القرآن ولا يكتبون الحديث. غير أن حفظهم للقرآن لا يعني معرفة معانيه! دون صرف النظر عما لدينا من المتصوفين الأميين الجاهلين بالدين كمشايخ مؤدبين! يعني أن لدينا مرشدين ممن لم تكتمل فيهم شروط الإرشاد أو إسداء النصح!
3- قيل للجنيد: “أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه”!!!
والسبحة للتذكير، كان يحملها قبل البعثة النبوية، البوذيون، والهندوس، ورهبان النصارى ورحبان اليهود! يكفي الرجوع إلى كتاب “البدع والنهي عنها” لمحمد بن وضاح الأندلسي، حيث نجد حملة عبد الله بن مسعود القوية على مستخدمي السبح لعد الأذكار من جهة، وعلى من يمارسون الذكر جماعة من جهة ثانية. فقد هدم مسجدا يقع في أطراف مدينة الكوفة كزاوية لاجتماع أصحاب عمرو بن عتبة فيه قصد أداء الأذكار على هيأة الاجتماع!
يبقى التأكيد على أن الجنيد لم يكن أصحابه يتجاوزون العشرين أو أقل. ولم يكن لهم اشتغال بالذكر الجماعي. ولا كانت لهم طقوس طرقية كطقوس الطرقيين عندنا!
فضلا عن كونه لم يدَّع قط مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة والأخذ عنه!
بينما أغلب مشايخ الطرق عندنا يدعون بأنهم يجالسونه في اليقظة ويتحدثون إليه ومعه! أي إن مشروعية اشتغالهم بما به يشتغلون إنما أخذوها عنه صلى الله عليه وسلم مباشرة دون ما وسيط يذكر بينهم وبينه!!!