القلب بين الإعلان والكتمان طارق برغاني

يعلم الله تعالى ما تكن صدور العباد وما يعلنون، والأصل أن القلب هو الصحيفة التي تنطبع عليها الفِطر والأخلاق والسجايا، والأعمال تجليات لها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ لا ينظرُ إلى صورِكُم وأموالِكُم، ولَكِن ينظرُ إلى قلوبِكُم وأعمالِكُم” مسلم:4651.
فالمؤمن لا يستطيع بلوغ درجة الإخلاص والصدق حتى يصلح قلبه وحتى يوافق سره علنه، فمتى تطهر القلب من بواعث النفاق وبذور الرياء ودواعي الشرك، إلا وتجلى الصدق في القول والإخلاص في العمل، والاستقامة في السلوك والحسن في التعامل، ونتائج ما يناقض ذلك كله تتمظهر علنا في تجلي باطل مهما حاول المنافق تنميقها بأقوال مزيفة وزخرفتها بأعمال مضللة، “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” المائدة:41.
فأوصاف القلوب تختلف بين الناس، وكل هذه الصفات وإن استقرت ابتداء في القلوب سرا، عند فئة، إما:
– إخلاصا وتصديقا: فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قَالَ: “شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي مُسْلِمٌ. فَطَعَنَهُ، فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ! [إِنِّي أَذْنَبْتُ فَاسْتَغْفِرْ لِي] قَالَ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ -مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ-) فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ؟) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ؟! قَالَ: (فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ). قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ. فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا. فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (رواه ابن ماجة)، وفي رواية الطّبرانيّ: (إِنَّ اللهَ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ تَعْظِيمَ الدَّمِ).
– وإما إيمانا وتوحيدا: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يخرجُ منَ النَّارِ من قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَكانَ في قلبِهِ منَ الخيرِ ما يَزنُ شعيرةً، ثمَّ يخرجُ منَ النَّارِ من قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكانَ في قلبِهِ منَ الخيرِ ما يزنُ برَّةً، ثمَّ يَخرجُ منَ النَّارِ من قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكانَ في قلبِهِ منَ الخيرِ ما يزنُ ذرَّةً” مسلم: 193.
فإنها قد تتبدى في الظاهر علنا، عند فئة أخرى، إما وهنا ومرضا، “فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ” المائدة:52.
 وإما عصيانا وكفرا، “وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُ” آل عمران:167.
 وإما صدا ونفاقا، “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أولئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا” النساء:61-63.
ومهما اجتهد المنافق في إضمار شر مبطن وإبداء خير كاذب، فإن الله تعالى يفضح خداعه بآيات منزلات، أو بهداية ربانية لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو بفراسة ملهمة يهبها من يشاء من عباده المؤمنين، “أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ” محمد:29-30.
وفي الأثر يصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما ستؤول إليه قلوب فئام من البشر في المستقبل، وما سيصيبها من فساد وسوء، فيحذرنا من شرور هؤلاء، يقول عليه الصلاة والسلام: “اللَّهُمَّ لا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لا تُدْرِكُوا زَمَانًا لا يُتْبَعُ فِيهِ العَلِيم، وَلا يُسْتَحْيَ فِيهِ مِنَ الحَلِيمِ، قُلُوبُهُم قُلُوبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ” السلسلة الضعيفة:1371.
وها قد صرنا نشاهد نماذج حية منهم، في وسائل الإعلام وعلى صفحات الكتب وفي الندوات والمحاضرات، وفي الأندية والجامعات… قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّين، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “أَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا” الترغيب والترهيب:1/50.
اللهم خلص قلوبنا من كل سوء، وارزقنا الصدق في السر والعلن.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *