لله در أقوام هجروا لذيذ المنام ونصبوا الأقدام, وانتصبوا للنصب في الظلام, يطلبون الرضا من ذي الجلال والإكرام, إذا جن الليل سهروا, وإذا جاء السحر اعتذروا, وإذا نظروا إلى عيوبهم استغفروا, وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو مقربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم” (صحيح الجامع, وأخرجه ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه تحت باب: باب التحريض على قيام الليل, والبيهقي في السنن الكبرى تحت باب: باب الترغيب في قيام الليل).
وقد اختلف العلماء في حقيقة التهجد وقيام الليل, فقال النووي رحمه الله: “التهجد شرعا هو صلاة التطوع بالليل” تحرير ألفاظ التنبيه, وكذا قال البعلي والسيوطي عليهما رحمة الله.
ومن أهل العلم من فرق بين التهجد وقيام الليل كالإمام أحمد رحمه الله وغيره.
قال ابن مفلح رحمه الله: “قال الإمام أحمد: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر, والتهجد ما كان بعد نومة” المبدع.
ولقد فرض الله تعالى قيام الليل على الأمة في بادئ الأمر فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سَنَة كاملة حتى تفطرت أقدامهم, ثم بعد ذلك خفف الله عنهم فجعل قيام الليل على الأمة مستحبا مرغوبا فيه كما دل على ذلك الحديث في صحيح مسلم, على خلاف حاصل بين العلماء في خصوص هذا النسخ في حقه عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”.
قال الحسن البصري رحمه الله في معنى الآية: “كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله, ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بالسحر”.
وحقيقة استغفارهم في ذلك الوقت المبارك: استغفارهم من التقصير كما قاله الرازي في التفسير الكبير, وقيل استغفارهم في السحر لأنه وقت نزول رب العزة كما في الحديث الصحيح قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره, وقيل خص استغفارهم في هذا الوقت لأنه وقت غفلة ولذة نوم، حيث حضور العبد في هذا الوقت مستغفرا دليل على يقظته كما قاله القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل وغيره.
وقال عليه الصلاة والسلام: “أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل” مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: “نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل” البخاري.
وعن عبد بن مسعود رضي الله عنه قال: “ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله حتى أصبح, قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه” (أخرجه البخاري في كتاب التهجد تحت باب: باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه), وهذا الصنيع من البخاري رحمه الله يدل على أن الحديث محمول على من لم يقم الليل وبه قال المنذري وابن خزيمة عليهما رحمة الله.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله عند هذا الحديث: “قيل البول على حقيقته, وقال القرطبي لا مانع من ذلك لأن الشيطان يأكل ويشرب فلا مانع من بوله, وقيل هو كناية عن سد الشيطان أذني الذي نام عن صلاة الليل, وقيل هو كناية عن سخريته واستهزائه واستخفافه به” الفتح بتصرف.
والصواب حمل ذلك على الحقيقة كما جنح إليه القرطبي رحمه الله فإن ذلك هو الأصل.
قال الحسن البصري رحمه الله: “والله إن بوله لثقيل”.
وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن مراتب إحياء الليل وقيامه:
أحدها: أن ييحي المرء الليل كله، وقد ذكر ذلك عن جماعة من السلف, وهذا الفعل مخالف لهدي النبي عهليه الصلاة والسلام إلا إذا حمل على غالب الليل.
الثاني: أن يقوم نصف الليل، وهو مروي كذلك عن جماعة من السلف وحقيقته أن ينام الثلث الأول والسدس الأخير.
الثالث: أن يقوم ثلث الليل، بمعنى ينام النصف الأول والسدس الأخير, وهو قيام داوود عليه السلام الذي رغب فيه النبي عليه الصلاة والسلام.
الرابع: أن يقوم سدس الليل أو خمسه.
الخامس: أن ينام أول الليل فإذا انتبه قام الباقي, أو يصلي حتى يغلبه النوم, فيغفوا اغفاءة ثم يقوم للصلاة مرة أخرى هكذا إلى الصبح.
السادس: أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين, فقد أثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: “من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا أو قائما” ذكره القرطبي في تفسيره.
الأسباب التي بها يتيسر قيام الليل
ذكر لنا علماؤنا أسبابا تيسر على المرء قيام الليل وهي على كثرتها ترجع إلى أمور ظاهرة وباطنة, أما الظاهرة فهي أربعة:
أولا: ألا يكثر الأكل والشرب فيغلبه النوم.
ثانيا: ألا يتعب نفسه بالنهار –ما استطاع- في الأعمال التي تعيا بها الجوارح فإن ذلك مجلبة للنوم.
ثالثا: ألا يترك القيلولة بالنهار للاستعانة بها على التهجد وصلاة الليل.
رابعا: الحذر من الذنوب والأوزار, قال الثوري رحمه الله: “حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته”.
أما الباطنة فثلاثة:
أولا: سلامة القلب من البدع والحقد على المسلمين وفضول هموم الدنيا فصاحب ذلك يثقل عليه قيام الليل.
ثانيا: الخوف من الله مع قصر الأمل والتفكر في أحوال الآخرة وأهوالها فإن ذلك يذهب النوم.
قال ابن المبارك:
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهموا فقاموا *** وأهل الأمن من الدنيا هجوع
ثالثا: أن يستحضر فضل قيام الليل حتى يستحكم بالمرء رجاء ذلك.
فوائد قيام الليل
إن الحرص على هذه العبادة الجليلة تثمر للعبد فوائد عظيمة منها:
ـ يسهل على المرء القيام يوم يقوم الناس لرب العالمين, وهذا لصبره على القيام لله في الدنيا.
ـ صحة جسمه وصفاء روحه وبهاء وجهه, قيل للحسن البصري لما كان أهل التهجد أحسن الناس وجوها قال: لأنهم خلو بربهم فألبسهم من نوره.
ـ يوفق العبد إلى الخيرات وتحل له المشكلات والمعضلات مصداقا لقوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”.
ومما يستأنس به في هذا الباب ترغيبا في قيام الليل ما أثر عن مالك بن دينار حيث قال: سهوت ليلة عن قيام الليل ونمت، فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وفي يدها ورقة فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم, فدفعت إلي الورقة فإذا فيها:
أألهتك اللذائذ والأماني *** عن البيض الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها *** وتلهوا في الجنان مع الحسان
تنبه من منامك إن خيرا *** من النوم التهجد بالقرآن
ونحوه كذلك ما يروى عن أزهربن مغيث (وكان من القوامين) أنه قال: رأيت في المنام امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا فقلت لها: من أنت؟
قالت: حوراء.
فقلت: زوجيني نفسك؟
فقالت: اخطبني إلى سيدي وامهر لي.
فقلت: وما مهرك؟
قالت: طول التهجد.
قال الضحاك أدركت قوما يستحون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة.
وقال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاثة: قيام الليل, ولقاء الإخوان, وصلاة الجماعة.
وقال أبو سليمان الداراني: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال الحسن: قيام الليل شرف المؤمنين.