حدثنا ابن الحاج في كتابه “المدخل” فقال: “ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان رحمه الله في كتابه المسمى بـ”سفينة النجاء، لأهل الالتجاء، من كرامات الشيخ أبي النجاء” في أثناء كلامه على ذلك ما لفظه: تحقق لذوي البصائر والاعتبار، أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار. فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم. والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين!
فإن عد صاحب هذه المقولة السخيفة نفسه من ذوي “البصائر والاعتبار”، فإن غيره ممن لم يتصف بهاتين الخصلتين، أعمى البصيرة -لا شك- وغير مدرك لعواقب الأمور!
فلو ادعى أحد مثلنا أن الهالك المزور، لم يعد يملك بعد رحيله عن الفانية ما يفيد به غيره، انبرى له الظلاميون ليخبروه بأنه يملك البركة! لكن البركة مفهوم تجريدي ميتافيزيقي غامض! سألت عنه عامة الناس وخاصتهم عساهم يدلونني على المقصود به ومنه، فلم أحظ من أي كان بإجابة واضحة مقنعة! فاضطررت حينها إلى كتابة مقال مطول في اثنتي عشرة حلقة، نشرتها لي جريدة “السبيل” المغربية مشكورة. حيث انتهيت إلى التمييز بين نوعين من البركة. نوع تؤيده اللغة والكتاب والسنة، ونوع تؤيده أوهام الهندوس والبوذيين والطوطميين وغلاة الرهبان والقساوسة والرحبان من اليهود والمسيحيين!
والمراد به ما يعرف بـ”الكا” عند قدماء المصريين. “فقد كانوا يطلقونه على كل كائن إلهي، وكانوا يرون أنه يتحد بالجسم بعد موته وتحلله. كما أنهم كانوا يعتقدون أنه يولد مع كل إنسان، وينفصل عن الجسد وقت الموت، ولا يعود إلى الجثة إلا بعد تحنيطها والقيام بطقوس أوزيريس!
كما تشير كلمة “بركة” المستعملة في الجماعات الإسلامية، وخاصة في شمال أفريقيا، حيث تتصورها العامة على أساس أنها شيء سيال مقدس، يفيض من الأولياء والمرابطين، ويمتد إلى كل ما يمس الولي من ثياب أو طعام أو شراب أو ماء. ويظل هذا الشيء عالقا بقبره، يتبرك به المريدون ويزعمون أنه عن طريقه تقضى حاجاتهم وتشفى أمراضهم. كذلك تتمثل “المانا” في القوة غير الطبيعية التي يتمتع بها بعض أفراد الجماعة، أو التي يحاول الأفراد التزود بها لبلوغ أهداف تحقق لهم السيادة أو التنبؤ أو قوة التأثير، فهي بمثابة القوى الفعالة التي يمكن استخدامها في النفع والضر حسب الحال”!
فتكون البركة بهذا المفهوم مرادفة لـ”الكا” لدى المصريين! ولـ”المانا” لدى الطوطميين. فالمصريون قديما مشركون يعبدون آلهة متعددة. والطوطميون مثلهم يلتفون حول معبود يحرم عليهم أكله، وقتله، ومسه بسوء. ويعتبرونه أصلهم الذي انحدروا منه، ويطلقون عليه اسم الطوطم. ويرون في القيِّم المشرف على الطقوس التي يؤدونها له كعبادة، شخصا يتمتع بقوة “المانا” التي تمنحه قدرة خارقة على فعل أي شيء، فكان أن جرى تقديسه وهو حي، كما جرى تقديسه وهو ميت!
ونكون نحن كعباد القبور، قد تسلمنا من قدامى المصريين ومن الطوطميين مشعل تقديس الصلحاء، لأنهم مزودون بكرامات وبالبركة التي هي بمثابة وسيلة جاهزة لحل أية معضلة مرضية، تعرض لها زائر ما لمزور ما، حتى لو استعصى علاجها أو إزاحتها عنه كل من الطب القديم والحديث، بما يتوفر عليه من تجهيزات ومن وصفات جرت عليها اختبارات فاتضح كونها فعالة ذات مردودية عالية!
ولن نصف هنا بالقبوريين الظلاميين، قصاد الأضرحة من العامة الذين دأبوا على التوجه إليها كلما حلت بهم نازلة، أو كلما اشتد بهم الحنين إلى الركوع والسجود لغير الله أمام صنم وهمي غير موجود! لأن الموجود هو الدربوز وما تحته وما عليه من أردية مزركشة! لن نصفهم بذلك لأنهم مخدوعون! وإنما نكتفي بإسداء نصحنا إليهم عساهم يتراجعون عن الغي الذي غرقوا فيه كغرق ركاب إحدى السفن في قعر البحر!
ونقول للمشرفين على تدبير الشأن الديني: كفاكم خداعا للأمة التي تصغي إلى ما تقولون! لكنها لا بد مستنكرة في العاجل من السنوات، ما يعتبر لديكم ضمن أضلاع ثلاثي الأمن الروحي للمغرب المسلم!
ويصر الظلاميون -وكل الأدلة الدينية والعقلية ضدهم- على أن البركة ذات مفعول سحري سري لا ينبغي جحده. فيقولون:
“واعلم أن من أعظم نعم الله علينا وأكبر أياديه لدينا، وجود الأولياء وظهورهم وظهور أضرحتهم، وفي ذلك من المنافع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر. فمن الفوائد في ذلك وجود البركة بالأرض (أية بركة وبأي معنى؟) وكثرة النفع! وإدرار الأرزاق! إذ لولاهم ما أرسلت السماء قطرها (لو التزموا سنة المختار ولم يشوهوا الدين الحنيف!)، ولا أبرزت الأرض نباتها، ولا صب البلاء على أهل الأرض صبا”! وقد صب البلاء مع وجودهم أحياء وأمواتا! فما علينا غير استحضار همجية هولاكو! وتيمور لانك! وهمجية هيتلير! والمشاركين معه في الحرب العالمية الثانية! وهمجية القذافي! وعلي عبد الله صالح! وهمجية بشار الأسد الذي ألزم جلاوزته وشبيحته المواطنين بترديد “لا إله إلا بشار”!!!
وفي كتاب “الأزهار العاطرة الأنفاس، بذكر بعض محاسن قطب المغرب وتاج مدينة فاس” لنفس مؤلف “سلوة الأنفاس” محمد بن إدريس الكتاني؛ نقف على ألوان من الضلال والادعاءات القاتمة التي خص بها صاحبنا كلا من مدينة فاس وبانيها أو مؤسسها إدريس بن إدريس.
فمن مزايا فاس -كما يقول- أنها “محل الأشراف والعثرة الطاهرة والدرية الهاشمية الفاخرة”! وأنها دار العلم… حتى قيل: إنه ينبع العلم من صدور أهلها كما ينبع الماء من حيطانها! وذلك من فيض مدد هذا الإمام رضي الله عنه (إدريس الثاني). وشدة عناية الله سبحانه وتعالى به”! ومنها “أنها تسمى عند الأولياء وأهل الله تعالى بالزاوية”! ومنها أن اجتماع الأولياء والصالحين على الأمور المهمة يكون بها، كما دلت عليه المرائي والكشوفات”! ومنها -هذا الضلال الذي نسمعه- أنه ورد في فضلها على ما ذكروه حديث نقله الخلف عن السلف. وهو ما وجد في كتاب سيدي غراس بن إسماعيل الفاسي المعروف بابن ميمونة بخط يده قال: حدثني ابن أبي مطر(؟؟؟) بالأسكندرية قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن المواز، عن عبد الرحمان بن القاسم (كذب!) عن مالك بن أنس (كذب!) عن محمد بن شهاب الزهري (كذب!) عن سعيد بن المسيب (كذب!) عن أبي هريرة مرفوعا إلى الرسول قوله: “ستكون بالمغرب مدينة تسمى فاسا! أقوم أهل المغرب قبلة! وأكثرهم صلاة! أهلها على السنة والجماعة ومنهاج الحق (كصاحب سلوة الأنفاس والأزهار العاطرة الأنفاس وغيره من الضالين والظلاميين المضلين!). لا يزالون متمسكين به، لا يضرهم من خالفهم، يرفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة”!
ثم يقدم إلينا من مزايا ومن كرامات مؤسسها ما يندى له الجبين! هذا إن كان صاحبه ممن تشم فيهم رائحة العلم بالدين. قال: “ومنها ما يوجد من الروائح الطيبة عند ضريحه، نقل ذلك متواترا. وأدرك بحاسة الشم في الأوقات التي لا يطلق فيها عنده عود ولا غيره. وذلك من الطيب الوهبي الملكوتي المنتشر من شراب الخمرة الإلهية والنبوية التي سقي منها والده رضي الله عنه. ومنه طلعت شمسها بالمغرب، ثم تسقى هو بعده وراثة منه، ثم منه انتشرت في هذه الأقطار، وسرى سرها في فؤاد الداني ومن هو بعيد الدار”!