حين اجتمع برلمان مكة -كما هي عبارة المباركفوري في الرحيق المختوم، وسماه صاحب (أحاديث الهجرة): (مؤتمر دار الندوة) حضر فيه أكابر السياسيين المكيين ورجال الأعمال القرشيين للنظر في سبل حماية مصالحهم الاقتصادية في تجارتهم إلى الشام خاصة، إذ كانت المدينة التي هاجر إليها الصحابة موضعا استراتيجيا يمكن استغلاله للإضرار بالأمن الاقتصادي المكي.. وقد كانت رؤوس الأموال التجارية خلال عام واحد برحلتيه تصل إلى ربع مليون دينار ذهبي.. وكانت في خطر!!
وكما هي عادة فراعنة السياسة وقارونات المال في سعيهم لحماية مصالحهم ونفوذهم، فإنهم لجؤوا إلى استغلال الأديان الوثنية المخدرة لشغل الناس.. والمكر بهم وإيهامهم بخطورة هذا الدين الجديد على أديانهم؛ أديان آبائهم وأجدادهم.. تدليسا وتزويرا.. وكان قصدهم الأسمى من ذلك استعمال العامة في الذب عن مقاصدهم الشخصية… وإبعاد الإسلام عن مصالحهم المبنية على الجشع واستعباد الناس.
حينما عرض النواب في البرلمان المكي ما يمكن أن يوفر نوعا من السلامة لمصالحهم استقر الأمر بمباركة إبليس.. الرجل النجدي الناصح.. على قتل النبي صلى الله عليه وسلم.. فانتخبوا أحد عشر شابا نبيها جلدا نسيبا من أوسط قومه ليقتلوه في فراشه بعد نومه.. ضربة رجل واحد.. يتفرق بعدها دمه في القبائل المكية كلها فينصرف بنو عبد المطلب عن الثأر إلى الدية.. وقد كان هذا ديدن أعداء الدين في أغلب أحوالهم.. لا يستحبون مواجهة الدعاة وجها لوجه بل يغتالون ويغتابون.
حينما وقف الأحد عشر شابا أمام الباب ينتظرون الوقت المحدد خرج النبي صلى الله عليه وسلم المخبر بالوحي أمام أعينهم خرج ومن بين أيديهم سد ومن خلفهم سد عليهم غشاورة لا يبصرون واكتملت صورة البلاهة في تصرف نخبة أهل مكة في وضع النبي صلى الله عليه وسلم التراب على رؤوسهم وكأن هذا هو الرد الوحيد الذي يستحقه هؤلاء السذج وكانت الرمزية في ذلك كافية لإحراج الكبرياء القرشي بعد ذلك.
وقد كانت صورتهم حقا مضحكة وباعثة على السخرية بهم… ولذلك استروح الأستاذ سيد قطب لذلك فقال في الظلال: (إنها صورة ساخرة).
تزداد الحالة سوءا حين يقف عليهم غريب عنهم فيسألهم فيجيبون جواب المغفلين.. مكروا فمكر الله تعالى بهم وهو خير الماكرين، فقال لهم ذاك الغريب كلمة خالدة إلى يوم القيامة في حق كل من سولت له نفسه التفكير في إذاية النبي صلى الله عليه وسلم: (خبتم وخسرتم) وفي رواية (خيبكم الله)… وهذه الكلمة موثقة شاهدة على ما حصل.. وانظر (السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية/ص270و280) لرزق الله. وتفاصيل القصة رواها ابن سعد من طريق الواقدي من حديث عائشة وابن عباس وعلي وغيرهم… يدخل بعضها في بعض. والواقدي محتمل في السير والمغازي على علته في الأحاديث!!
والطريف في هذا أنهم قالوا له في منتهى الغباء والسذاجة: (والله ما أبصرناه!) وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم..
وكيف يبصرونه وقد أعمى الله بصيرتهم!؟
لقد وفق الغريب في وصفهم بالخيبة والخسران فهو الوصف النبوي لمن يتنقصه ويقول له: (يا محمد اعدل فإنك لم تعدل)… (خبت وخسرت إن لم أعدل).. هكذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر قاصدين المدينة في طريق متعرجة بدء بالجنوب فالغار فالساحل ثم المدينة؛ ليكتمل غضب الأعيان المكيين.. على رأسهم أبو جهل صاحب فكرة القتل.. وكفى به هاديا خريتا.. وأن يكون أبا جهل!!
لقد استمرت محاولات النيل من النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من الأساليب والطرق استنفذت الوسائل والإمكانات.. حتى لقد باتوا لا يجدون إلا السب والاستهزاء.. طريق المهزوم ومنهج الضعيف.
حينما أشاع المشركون وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالمذمم…كان رد النبي صلى الله عليه وسلم راقيا جدا.. وعجيبا جدا.. فإنه قال لهم: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد).
فإن الله تعالى قال: (إنا كفيناك المستهزئين)..ولئن كان الله تعالى قد دفع عن أبي بكر الصديق حين كان يسب.. بملك..! فما بالك بسيد أبي بكر!؟
كثيرة هي التهم التي رمي بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير هو السباب والسخرية اللذان أوذي بهما النبي صلى الله عليه وسلم ..وقد وقفت على جملة منها… وفيها كتاب كامل كتب في عهد محاكم التفتيش باللغة الإسبانية القديمة اسمه مضاد القرآن (anti al coran) عقدت فيه فصول خاصة لمحاولة تشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الكنيسة الكاثوليكية.. ومعها الإنجيلية على لسان مارتن لوثر الذي عادى القرآن ومحمدا عليه الصلاة والسلام في بعض كتاباته إلى درجة جعلته يقول في نبينا عليه الصلاة والسلام: (النبي المقيت..) وانظر:Martin Luther—Translations of Two Prefaces on Islam (p262)
ولا تفوتنا الكنيسة الأرثودوكسية القبطية.. فهي رأس البلاء في ما يجري الآن.. والكل متفق على جواز الاستهزاء بنبينا.. وإن تقزز الأمريكان من رداءة الفيلم من الناحية الفنية..!!
ينبغي أن نستحضر أن أعداء الله (لا يستسلمون أمام أهل الحق بسهولة ويسر، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق، ابتكروا وسائل أخرى.. وهكذا حتى ينتصر الحق النهائي، ويلفظ أنفاسه الأخيرة) وهذا من لطائف العلامة مصطفى السباعي في (السيرة النبوية..دروس وعبر).
وجنوح أعداء الله تعالى إلى الاستهزاء والسخرية أمارة بل دليل على استنفاذهم للوسائل المشروعة لضعف الحجة وهزالتها.. فالسخرية من الوسائل المتأخرة المستعملة في التشويش.
وسلوك الأعداء هذا النوع من المواجهة بالاستفزاز اعتراف بالاستسلام الفكري.. والتدني إلى أدنى مراتب المواجهة في صراع الحضارات كما يسميه (هنتنغتون)!
وأرى أن خير ما يرد به على هؤلاء أن يثبت الدعاة على طريقهم وطريقتهم.. متشبعين بروح التحدي والمبادرة.. والإحساس بوجوب الانشغال بالفعل لا بالانفعال.. وضرورة إشراك الناس في مشاريع هادفة إلى رد الاعتبار بتعريف الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم في الشرق والغرب.. بالمطويات والأقراص المدمجة وبالحوارات الفردية والجماعية في الشارع والمؤسسات والأسواق.
فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا تعوزها القوة ولا التجدد.. فهي قوية متجددة كما قال مايكل هارت في أعظم مائة شخصية!!
سينقطع مكرهم… ولن تنقطع دعوتنا إلا أن يشاء الله… وهذا أمر نص عليه قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر).
وعلينا أن نتجنب ردود الأفعال السريعة التي تستفرغ الغضب.. والتي يمكنها أحيانا أن تكون سببا في الإفساد لا الإصلاح.. وتعود على الأصل من إظهار الغضب بالإبطال.
وعلى الإعلام الإسلامي أن يوفر الجو الملائم ليخاطب عقلاء الناس عن طريقه بما يليق بهذه الحال.. وأن يتولى السياسيون الرد المناسب المتناغم مع الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلدانهم.
وعلى العلماء والدعاة والمفكرين أن يكثفوا نشاطهم الدعوي عن طريق الندوات والمؤتمرات والمحاضرات لبيان جمال الشريعة وشمائل نبينا صلى الله عليه وسلم.
على عقلائنا أن يأخذوا زمام المبادرة عوض أن يسبقهم عوام المسلمين ليوجهوهم إلى أحسن الفعل وأنفعه.
نحن أمام محاولات بائسة من سفهاء ساقطين للإساءة إلى سيد الخلق أجمعين وإيقاع النكاية بالمؤمنين وما تنفع السفاهة بنا إن كنا على النهج ثابتين وعلى منهج النبي الأمين سائرين!!
لا خلاف بيننا أن حق من يستهزئ بنبينا صلى الله عليه وسلم العقوبة المناسبة فيجب على الحقوقيين المسلمين أن يرفعوا دعوى ضدهم في محاكم المسلمين وفي محاكم غيرهم…!! مطالبين إياهم بأقصى العقوبة في حقهم، ويجب علينا أن نراجع برنامج عملنا في الدعوة إلى الخير وهذا ذر للتراب على رؤوس المستهزئين وآخر كلامنا لهم: (خبتم وخسرتم).